تلك القراءات الاستشراقية
كتب إدوارد سعيد عن "تشريق الشرق"، وقصد بهذا المصطلح أن للغرب صورة ذهنية لا يحبّ أن يغيرها عن الشرق، كما لا يحب أن يرى الشرق ولا الشرقيين إلا ضمنها. هذه الصورة، السلبية في أكثر الأحوال، لم تظهر، إلا لتبرّر للحملات الاستعمارية منطقها وادّعاءاتها أنها ستغزو العالم من أجل نقله من التخلف والظلام إلى الحداثة والنور. ولفت سعيد النظر إلى دور المثقفين والمستشرقين، الذين، بدلاً من تصحيح الصورة الشائهة عن العرب والمسلمين، استخدموا ما حصلوا عليه من مكانة وصيت من أجل تكريس صورة زائفة عن شرق بديل تظهر فيه ممالك الجنوب مرتعا كبيرا للجهل والاستبداد والفوضى الأخلاقية. وقد انتشرت هذه الصورة الاستشراقية التي روّجتها أسماء كبيرة، في كل مكان، وساعد في انتشارها، بجانب الثقة التي كانت تدفع لتصديق تلك الصورة الوحيدة المتوفرة، انتشار الجهل بين عامّة الأوروبيين وانغلاقهم ومحدودية مخيلاتهم.
سوف يستمرّ ذلك الارتباط بين وصف الشرق وتبرير استغلاله واستعماره. ومن أجل تقليل الشعور بالذنب وتبرير كل شيء، حتى سرقة الموارد واستعباد الناس، كان يجب الاستزادة في شحن التصوّرات الذهنية التي تحتقر كل ما يرتبط بهذه المنطقة من ثقافة وعادات ودين. لهذا لن نستغرب حين نسمع باحثاً فرنسياً معروفاً، كإيرنست رينان، وهو يتحدّث في محاضرته عن "الإسلام والعلم" (في جامعة السوربون في العام 1883) عن "التدنّي الواقعي للبلدان المحمدية وانحطاط الدول التي يحكمها الإسلام". لم يكتف رينان بذلك، بل لجأ أيضا لحيلة عنصرية لتبرير فترة نهضة المجتمعات المسلمة، فوفق رأيه، كان السبب انضمام مجموعات جديدة، كالفرس والمسيحيين، الذين احتفظوا بالمعارف اليونانية القديمة تحت القشرة الإسلامية. أما ذلك المزيج بين الدين الإسلامي والعروبة، أو البداوة، فلم يكن لينتج، برأيه، سوى الانحطاط والتخلف. وقد حظيت أطروحة رينان ببعض الانتشار والشعبوية، لأنها وافقت هوى كثيرين، لكنها لم تصمد وقتا طويلا أطروحة علمية جادّة، مثلما لم تصمد مسرحية فولتير المسيئة "محمد"، التي حاول أن يرضي بها متعصبّي الكنيسة. فشلت عملا فنيا، بل لم تعد تذكر لا ضمن الأدب ولا ضمن ما يليق بفيلسوف كبير مثل فولتير من كتب.
بدأ الأوروبيون يستعيدون خطاباتهم الاستعلائية، التي كانت ترى أن مشكلة الشرقيين لا تنحصر في مسألة العلم والحضارة، لكنها مشكلة ثقافية
في فترة دخول السلطنة العثمانية مرحلة الموت السريري، وهي مرحلة ظلّ فيها السلاطين حاكمين، لكنهم كانوا خاضعين للضغوط الأوروبية ومؤمنين في داخلهم بأن الطريق إلى التحضّر يبدأ بتقليد الغرب، بدأ الأوروبيون يستعيدون خطاباتهم الاستعلائية، التي كانت ترى أن مشكلة الشرقيين لا تنحصر في مسألة العلم والحضارة، لكنها مشكلة ثقافية تكمن في أصل العقل المسلم المتحجّر، الذي لا يتناسب مع متطلبات العصر، أو كما عبّر رينان بشكل صريح، لكن متناقض مع ما قدّمه المسلمون من مساهمات علمية: "الإسلام هو الاتحاد الوثيق للروحي بالزمني، إنه حكم عقيدة، إنه أثقل الأصفاد التي حملتها الإنسانية يوماً، إن ما يميّز المسلم من حيث الجوهر هو كراهيته العلم".
لم يقتصر تكريس هذه الصورة على المفكرين والفلاسفة، وإنما شمل الفنانين والكتاب أيضاً، فازدهرت الرسومات التي تسجّل انطباعات الفنانين عن بلدان الجنوب. تعد تلك الرسومات، التي تُعرض في متاحف ودور ثقافية في أوروبا وحول العالم، أكبر دليل على الانفصام بين الواقع والصور التي كان أولئك الفنانون يعرضونها لنساءٍ مشرقياتٍ شهوانياتٍ أو شبه متعرّيات.
كانت تلك الرسومات الفانتازية، والتي سوف تتعزّز أيضاً عبر روايات ذات طابع إباحي تظهر فيها النساء المقموعات وهن ينتهزن كل فرصة لممارسة الجنس، تقدّم حافزاً إضافياً للمغامرين يدفعهم إلى الالتحاق بحملات غزو ذلك العالم الغرائبي المتوحش والمتحرّر من كل القيود.
في تلك البيئة، خرج مصطلح "الحريم"، الذي تحول إلى كلمة شائعة في اللغات الأوروبية، وهي تصف، بشكلٍ لا تسنده الحقيقة التاريخية ولا الدراسات الاجتماعية، عالماً من الفوضى الجنسية التي لا تحدّها حدود. الكلمة، التي ما زالت تستخدم في سياق الاستشراق والأنثربولوجيا كانت تحمل مدلولات مزدوجة، فهي تعبر من ناحية عن الظلم والقهر الواقع على النساء ومن ناحية أخرى كانت تعبّر عن تجبر الرجل المشرقي واستغلاله.
الانطلاق من سعي الغربيين إلى "تشريق الشرق" يجعلنا نعرف ما وراء كل ذلك الجدل والرفض لإقامة البطولة الدولية على أرض عربي
يفسّر ما سبق الاحتفاء الغربي بأعمالٍ مثل كتاب "الف ليلة وليلة"، الذي كان يخدم هذه الصورة الاستشراقية ويعبّر عنها، وهو الاحتفاء الذي يتكرّر في كل عمل فني أو أدبي عربي يصبّ في مثل هذا الاتجاه. الأمثلة في هذا المجال كثيرة، سواء لروايات أو أعمال سينمائية شكلت صدمةً في محيطها المحلي، لكنها نالت رضا وجوائز عالمية. أكثر من ذلك، جرى اعتبار ما وجدته تلك الأعمال من انتقادات بمثابة دليل جديد على القمع الذي يواجه الفكر الحر في الثقافة العربية أو الإسلامية.
في هذا الإطار، أي محاولة لفهم الروح العدائية التي استقبل بها غربيون فوز قطر بتنظيم كأس العالم على أرضها تظل ناقصة إذا لم تستصحب هذه الخلفية الاستشراقية الممتزجة مع العقلية الاستعمارية. الانطلاق من سعي الغربيين إلى "تشريق الشرق" يجعلنا نعرف ما وراء كل ذلك الجدل والرفض لإقامة البطولة الدولية على أرض عربية، على الرغم مما تمتلكه قطر من إمكانات، كما يجعلنا نفهم سرّ الحساسية غير المبرّرة من طلب قطر احترام ثقافة المنطقة عبر منع شرب الكحول أو منع استغلال الفعالية الرياضية لترويج المثلية الجنسية.
كان من أهم ما في المهرجان الكروي إرسال رسائل مفادها بأن ما يعتبرها الغربيون قيماً عالمية ليست كذلك في الواقع. كما أن الشعوب العربية المسلمة قادرة على تقديم الرسائل الحضارية وإقناع كثيرين بها، وهو ما يهدم صورة تكرّست عقودا طويلة كانت تحصر العربي في صورة الشخص الذي لا يملك سوى المال أو الذي يقمع المرأة أو الذي يعجز عن الإبداع.