04 نوفمبر 2024
تلك الأغنيات اللبنانية
لا تُذكّر وفاة المغني اللبناني، سمير يزبك (77 عاماً)، قبل أيام، به وحسب، وهو المنسيّ منذ سنوات، وإنما تذكّر، أيضاً، بأغنيةٍ لبنانيةٍ، كان لها زمنٌ ذهبي، إبّان حضورها ورقيّها الآفليْن، في سنوات السبعينيات وبعض الثمانينيات مثلاً. وتُتَذكّر هذه الأغنية أيضاً بمناسبة نعي الملحن إلياس الرحباني (أغنية فيروز "دخلك يا طير الوروار"، مثلاً)، الأسبوع الجاري، الثقافة في لبنان، وقوله إن "الفن في لبنان يعيش نهايته"، بل إنه يعلن، في تدوينةٍ له، "وداعاً لبنان.. وداعاً للعباقرة، وداعاً للشرف والأخلاق". ومع أن شيئاً من الشطط ربما يتبدّى في هذا الكلام، إلا أنه في الوسع أن يُقال إن ذلك الإبداع الغناني اللبناني، بأصوات فيلمون وهبي ونصري شمس الدين وسلوى القطريب وسمير يزبك وعصام رجّي وجوزيف صقر وهيام يونس وجوزيف عازار وطروب وإيلي شويري ونور الهدى، وغيرهم، (فيروز وصباح ووديع الصافي موضوع آخر)، كان نهضةَ طربية بديعة، في الفضاء الموسيقي والغنائي العربي، ليس فقط بإيقاعات الميجانا والعتابا والأووف والروزانا والهوّارة، وليس فقط بالجبليات والفلكلوريات والطقطوقات والزجليات والدبكات اللبنانية، وإنما أيضاً وأيضاً بتلك التنويعات المشرقية والريفية والبدوية (سميرة توفيق لبنانية)، وفيها كلها الروح المنتشية بالخيال الفريد في كلمات كتّاب تلك الأغاني وموسيقات ملحنّيها، من طراز الرحبانيين وزكي ناصيف وروميو لحّود وجورج جرداق ومارون كرم (وغيرهم).
ثمّة، الآن، نجوى كرم وعاصي الحلاني، وثمّة موهوبون غيرهما، وثمّة نانسي عجرم التي يعدّها الملحن المصري حلمي بكر وريثة شادية (لم لا؟)، لكنهم يغنّون، غالباً، في فيديو كليبات للعيون، لا للأسماع، أو وسط ضجيج مصفقين في صالات سهرات أو أستوديوهات برامج تلفزيونية مرتجلة. لا وقع ولا أثر ولا بهجة. وليس الحديث هنا عن أصواتٍ وألحانٍ جيدتيْن، أحيانا وليس غالباً، وإنما هو عن حالةٍ لبنانية ضجّت بالجميل من الأغنيات الشائقة والرهيفة، والتي كانت تشيع بهجةً حارّة فينا. كنّا، في الأردن، نسمعها في التلفزيون، ونرى نجومَها، بسراويلهم (أو شراويلهم؟) الطريفة، وبالشعور والسوالف الطويلة للراقصين، وبالثياب الطويلة للراقصات في الفرق المصاحبة، وإنْ في مسرحياتٍ لم نكن نحبّ قصصها. بالأسود والأبيض، ثم بالملوّن. كان لبنان، في مداركنا، بلد حربٍ، يتقاتل أهلوه. وتأتينا نشرات الأخبار منه بصور أكياس الرمل والبواريد يتمنطقها شبّانٌ يطلقون الرصاص منها على من لا نعرف. في تلك الغضون، وبعد نشرات الأخبار (في الثامنة مساء)، كثيراً ما كان سمير يزبك يغني "دقّي دقّي يا ربابة"، ونصري شمس الدين يغني "يا مارق عالطواحين والمية مقطوعة"، وعصام رجّي يغني "هزّي يا نواعم"، وجوزف صقر يغني "أنا اللي عليكي مشتاق"، وسلوى القطريب تغني "طال السهر بليالي العيد". أيّ بلد هذا، إذن، لديه كل هؤلاء، مثلاً، ولديه فيروز وصباح، ويتحارب الناس فيه.
ربما تنكتب هذه الكلمات صدوراً عن مرض الحنين، أو النوستالجيا إيّاها، وجاءت إلى الخاطر، في رحيل مغنٍ فطنت الصحافة إليه عند وفاته، هو سمير يزبك، تصادف مع زفرة إلياس رحباني الحادّة عن "قتل ممنهج ومقصود" للثقافة والفن في لبنان. وفي البال أن هذا الملحن الذي غنّت له فيروز أعطى لحناً إلى هيفاء وهبي، في هذا الزمن الخربان الذي يهبط فيه الخيال إلى مطارح واطئة، ملحوظةٍ في أغنياتٍ بلا عدد لمغنين متشابهين، ربما كان من بينهم أصحابُ أصواتٍ طيبة. ولا يختص الخراب الماثل في لبنان (وغيره) في مرابع الغناء وحدها، فأرطال الركاكة ثقيلةٌ في غير شأن في المشهد العام، وإن ثمّة إبداعاتٌ وازنةٌ وذات قيمةٍ لأفرادٍ، لا يلملمهم نسقٌ ظاهر، ولا يصل بينهم خيطُ يضمّهم في لوحةٍ واحدة، ضربات الألوان فيها تكشف قوة كلّ من فيها، فيما النافرون والصغيرون يرميهم التاريخ الثقافي خارجها. تلك اللوحة اللبنانية انكسرت، وتهشّمت. أقام في ألوان الغناء فيها بديعون، من سمت سمير يزبك مثلاً، في زمنٍ مضى، كان فيه لبنان، على ما قالت أغنيةٌ لوديع الصافي، "قطعة سما".