تفكيك وحدة الساحات
في معرض تفسيره لتأخرّ الردّ على اغتيال القيادي فؤاد شُكر، أشار الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، إلى أنّ محور المقاومة كان في حاجة إلى بعض الوقت للتشاور بشأن ما إذا كان يجب أن يردّ المحور كلّه في وقت واحد ويوم واحد أو بشكل منفرد؛ وبردّ الحزب الذي طاول هدفاً استراتيجياً، هو قاعدة غليلوت للمخابرات الإسرائيلية (أمان)، إضافة إلى قاعدة أخرى في عين شيميا، يكون المحور قد حسم موقفه بالردود المنفردة، والمنضبطة، والمحسوبة، كيلا تقع أطرافه في "فخّ نصبه العدوّ"، بحسب وزير الخارجية الإيراني.
ربّما لا تكون ضربات حزب الله متناسبةً مع اغتيال شُكر، إلّا أنّها بالغةُ الأهمية، فمَرْوَحة الأهداف تتوسّع وتزداد خطورةً، وفي حال كانت الضربات قد حقّقت أهدافها، وهو ما يُؤكّده نصر الله وتتكتّم عليه تلّ أبيب، فإنّنا سنكون أمام حالةٍ يمكن وصفها بأقلّ من حربٍ مباشرة وأكبر من اشتباكاتٍ محكومة بقواعد اشتباك، ما يعني أنّنا أمام حالةٍ يمكن أن تنفجر دفعةً واحدةً في أحد اتجاهين: إمّا حرب شاملة في حال ردّت إيران فجاء ردّ إسرائيل عليها أعنف ممّا يتصوّره محور المقاومة، أو التبريد الشامل بالتزامن مع مفاوضات وقف إطلاق النار في غزّة، وهذا هو الأرجح.
فصل حزبُ الله بآخر ضربة له واسعة المساراتِ، فثمّة مسارُ القاهرة - الدوحة التفاوضي، وثمّة مسارُ طهران - واشنطن الخاص بملف الأولى النووي وتبعاته، بالتوازي مع مساراتِ انتقامٍ منفصلةٍ تخصّ كلَّ طرفٍ من أطراف المحور، فحزب الله يردّ على ما يخصّه (اغتيال فؤاد شكر)، وإيران تردّ على اغتيال إسماعيل هنيّة، والحوثيون يردّون على ضرب ميناء الحديدة، وهو ما يُحقّق مكاسب لهذه الأطراف منفردة، ويمنحها انتصاراتٍ صغيرةً لا تورّطها في حرب شاملةٍ ومديدةٍ ومريرة، لكنّ معادلةً كهذه، رغم ما تبدو عليه من ذكاء و"كظم غيظ"، مُرشّحةٌ للانهيار، وتظلّ مرتهنةً بردّ إسرائيل، التي قد تسعى إلى خرق التفاهم غير المُعلَن، وقواعد الاشتباك المُتَّفق عليها، في حال خرج الردّ الإيراني العسكري، لسبب أو آخر، من المستوى الذي يمكن أن تقبله، فمعادلة "الكلّ منتصر" لا يرسم حدودها حزب الله، كما فهمنا من آخر خطاب لنصر الله، بل خطط بنيامين نتنياهو، الذي قد يرى أنّ ثمّة فرصةٌ ثمينةٌ سنحت، وقد لا تتكرّر، بتوجيه ضربات نوعية وغير مسبوقة داخل الأراضي الإيرانية، وهذا وارد نظرياً في الأقلّ.
مشكلة فصل المسارات أنّها أضرّت وتضرّ بالطرف الوحيد، الذي قال محور المقاومة إنّه يناصره، وهو المقاومة في غزّة، فتوقيت ضربات حزب الله ترك المقاومة الغزّية بلا غطاء، وأضعف موقفها التفاوضي في القاهرة، فالتهديد بدخول المنطقة مرحلة متقدمة من الاشتباكات، أو حتّى الحرب، كان يمثّل ورقة في يد المقاومة. أما وقد جاء ردّ حزب الله ضمن حسابات دقيقة ومنضبطة فقد سقطت هذه الورقة، وأصبحت في يد نتنياهو، وفي حال جاء الردّ الإيراني في شاكلة ردّ حزب الله، أو ردّها في 13 إبريل/ نيسان الماضي، فإنّ استفراد إسرائيل بغزّة سيكون محتوماً.
ليس مطلوباً من حزب الله أن يُحرّر فلسطين، فهذه مهمّة شعبها. ولكن لم يكن مطلوباً منه رفع سقف التوقّعات، وهو ما فعله للأسف، فنصر الله الأحد الماضي هو غيره حين خطب غداة اغتيال شُكر، والإشارة إلى هذا لا تهدف إلى الطعن فيه وفي حزبه، بل التأشير إلى أنّ حركةَ الرجل مرتبطةٌ بمايسترو آخر يرى أنّ التصعيد ليس في مصلحته، وهذا ما يُفسِّر ربّما سيمياء المشهد، الذي ظهر فيه نصر الله وهو يعلن ردَّ حزبه وطبيعته ومُحدّداته، فقد بدأ خطابه بصوتٍ خفيض، وبإشارات فهمها بعضٌ طائفيةً، وما هي كذلك في الأحوال كلّها، لكنّها أدرجت الردّ في سياق مقاومة فوق تاريخيّة (أربعين الحسين)، لا في سياق مقاومة راهنة، أيّ أنّه قام بخلق سياقٍ آخرَ للمقاومة، دلالياً في الأقلّ، وهو ما فعله بعده بيومَين أو ثلاثة أيّام مُرشد الجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، في تغريدةٍ نُسبت إليه في موقع إكس، فإذا الحرب أو الصراع غير متعيّن بزمن، أو بأسباب راهنة وتاريخية، بل بين أنصار سيّدنا الحسين بن علي ويزيد بن معاوية.
هذا تعويم وإطلاق سحابات دُخان لإخفاء عملية تراجع منظّمة عن شعار "وحدة الساحات"، لتكلفته العالية، وعدم القدرة، وربّما الرغبة في إنفاذه.