تفتيت المفتت في "سايكس-بيكو"

04 يوليو 2014

جنود فرنسيون يصلون إلى بيروت في 1920 (Getty)

+ الخط -

اهتم كثيرٌ من الإعلام الغربي بسيطرة "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) على الموصل، ومدن أخرى في الشمال والغرب العراقي، وإعلان التنظيم، بعد ذلك، ما وصفها بـ"الخلافة الإسلامية" من حلب في سورية إلى ديالى في العراق، من زاوية أن في ذلك "محوا" لخطوط التقسيم الشهير للمشرق العربي الذي تمّ بناء على اتفاقية سايكس-بيكو.  
وتلك الاتفاقية هي ذلك التفاهم السري المشؤوم بين القوتين الاستعماريتين البائدتين، بريطانيا وفرنسا، عام 1916، على تقاسم الهلال العربي الخصيب بينهما، بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ودخولها في طور الأفول. ومنذ ذلك التاريخ، وبعد تعديلات طفيفة، أدخلت على نص الاتفاق الأصلي في السنوات التالية، فُرضت خريطة وحدود جغرافية وهمية ومفتعلة على منطقةٍ، عرفت بتجانسها الجغرافي والبشري تاريخياً، وشظيت على أساسها قبائل وعشائر واحدة، وزرعت فيها ألغام حدودية ومذهبية وعرقية، قابلة للانفجار في أية لحظة.
ولكن، حتى ذلك التفتيت المشؤوم يبدو، اليوم، في طور تفتيت آخر، وبشكلٍ قد يغير خريطة بلدانٍ كثيرة في المشرق العربي، كما نعرفها اليوم. ومن ثمَّ يبدو الحديث عن "محو" تنظيم "داعش" تلك الحدود الوهمية نوعاً من المبالغة. فما يجري عملياً، اليوم، هو إعادة رسم خرائط في المنطقة، وتشظيتها فوق ما هي متشظية. ويكفي أن ندلل على ذلك بتوجه أكراد العراق إلى الاستقلال كلياً عن العراق، خصوصاً بعد سيطرتهم، منتصف الشهر الماضي، على مدينة كركوك الغنية بالنفط، مستفيدين، في ذلك، من انهيار قوات الجيش والأمن العراقيين أمام تقدم ثوار العشائر السنية، المتحالفين مع "داعش". المثير هنا أن كركوك لم تكن يوماً ضمن ما يطلق عليه بـ"الإقليم الكردي"، على الرغم من كل مزاعم الأكراد.
قد يكون العراق بوابة التقسيم والتشظية في المنطقة. فمنذ الغزو الأميركي عام 2003، وفرض معادلةٍ طائفيةٍ وعرقيةٍ فيه، ومن ثمَّ تفجر الصراع على أساسٍ من خطوط هذه المعادلة، والحديث لا يتوقف عن ضرورة تقسيم العراق إلى دويلاتٍ ثلاث: شيعية وسنية وكردية. نائب الرئيس الأميركي الحالي، جوزيف بايدن، كان واحداً ممن دعوا عام 2006 إلى تقسيم العراق على أساسٍ من هذه الفواصل العرقية والمذهبية التي دشنها العدوان الأميركي. حينها، كان بايدن عضوا في مجلس الشيوخ الأميركي.
اليوم، تدخل إسرائيل على الخط، وهي الخنجر الذي غرز أصلاً في خاصرة العالم العربي، لضمان بقائه متشظياً، ضاغطة على الولايات المتحدة لقبول استقلال "إقليم كردستان" عن العراق. فهل هي محض مصادفة أن يتحدث بهذا اللسان، الشهر الماضي، كل من رئيس الدولة العبرية، شمعون بيريز، في لقائه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في واشنطن، ورئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، في محاضرة له في جامعة تل أبيب، ووزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، خلال لقائه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في باريس؟


لا أظن أن أحداً يصدّق أن هذه محض مصادفة، ولا أظن أن أحداً يشك في أن من مصلحة إسرائيل أن ترى مزيداً من التمزق في المنطقة العربية فوق ما هي ممزقة.
ولكن العراق ليس وحده من يقف على أعتاب التقسيم والشرذمة، فهناك سورية أيضاً. فسورية التي تحولت ساحتها من ثورةٍ شعبيةٍ ضد نظام قمعي إلى ساحة حربٍ، بالوكالة، إقليمياً ودولياً، تشظى شعبها إلى شعوب. فثمة السنة، وهم الأغلبية المقموعة، وثمة العلويون، وهم الأقلية الحاكمة، وهناك الأكراد الذين عاشوا تحت نظام البعث على الهامش. وفوق هذا وذاك، ثمة أقليات مسيحية وعرقية أخرى، وإنْ بنسبٍ قليلة.
إجرام النظام ورفضه مطالب الإصلاح الشعبية قاد إلى انقسام المجتمع السوري، مذهبياً وعرقياً وجغرافياً. وساهم تواطؤ كثيرين من العرب والغرب في عدم دعم الثورة السورية بما تحتاجه لهزيمة نظامٍ، جرد آلته العسكرية لسحق شعبه، ساهم في إيجاد حالة من الاستنزاف، طويل الأمد، لكل من النظام والثورة، وهو ما ساعد في تعميق الشرخ المجتمعي أكثر فأكثر. وطبعاً، ساهمت سياسات إيران الطائفية التخريبية في سورية، كما في العراق من قبل وحالياً، وحلفاؤها من الشيعة، وتحديداً في حزب الله اللبناني، في استثارة شرخ مذهبي آخر في جسد الأمة العربية والمسلمة.
وجراء ذلك، كثيراً ما طرحت سيناريوهات "للحل" في سورية، قائمة على أساس دولة علوية في الساحل السوري، وسنية عربية في الوسط، وكردية في الشمال الشرقي.
نعم، نبرة حديث تفتيت المنطقة العربية على أسس عرقية ومذهبية وطائفية تتعالى منذ الغزو الأميركي للعراق، وهو لا يستثني، حتى الحليفين الأميركيين في السعودية ومصر. فثمة من يطرح أميركياً أن حدود سايكس-بيكو هي من مخلفات قوتين استعماريتين آفلتين في المنطقة العربية، وأن هذه الحدود ليست بالضرورة الخيار الأميركي، القوة الإمبريالية الحالية الوارثة للنفوذين الاستعماريين السابقين في منطقتنا. ومن ثمَّ، إذا كان التقسيم قد وقع في السودان، بعد سلخ جنوبه عنه، وربما يكون هناك مزيد في الطريق، وإذا كانت ليبيا تعيش هواجس تشظية هي الأخرى، وكذلك المغرب واليمن.. إلخ، فما الذي يمنع من إعادة رسم الخرائط، كلها أو جلِّها، ولكن أميركياً هذه المرة!؟
إننا قد نكون نشهد تحقق "نبوءة" وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق، كوندوليزا رايس، عن "الفوضى الخلاقة" في المنطقة. لكن هذه "النبوءة" المدمرة تتحقق بأيدي بعضنا، خصوصاً من الأنظمة القمعية التي فتحت الباب مشراعاً للتدخل الخارجي في شؤون منطقتنا. فالانقلاب على إرادة الشعوب، وغياب شرعية الحكم الشعبية، قاد تلك الأنظمة إلى البحث عن "شرعية" أجنبية، ولكن هذه "الشرعية" لا تأتي من دون ثمن. وها نحن، اليوم، نرى وجهاً من أوجه هذا الثمن الباهظ.
أخشى ما أخشاه أن يتحول المفتت في سايكس-بيكو، اليوم، إلى رثائية بعد التفتيت القادم، لا قدر الله. حينها، لن يكون في مقدور أجيال العرب القادمة أن تفهم ذلك النشيد العربي الذي دوماً ما تغنينا به صغارا:
بلادُ العُربِ أوطاني منَ الشّـامِ لبغدان ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مِصـرَ فتطوانِ
فربما لن تكون بغداد، حينها، عاصمة للعراق كما نعرفه اليوم، وكذلك دمشق عاصمة لسورية كما نعرفها اليوم، وقس على ذلك. أتمنى أن أكون مخطئاً، ولكن المستقبل لا يُبنى بالتمنيات بقدر ما أنه ينهض بالعمل والاستجابة للتحدي. فهل نستوعب المعادلة، ونستبق الفوضى العارمة ونمنعها قبل وقوعها؟ كلنا يتمنى ذلك، ولكن، مرة أخرى، التمني وحده لن يجدي.