"تغيير ثقافي" في اليوم التالي
لولاها السّوَيْداء التي تمكّنت منّا، وقد أشاعتْها فينا مشاهد الجرائم اليومية التي يرتكبها طيران جيش الاحتلال في قطاع غزّة، ولولاها أطنانُ الأسى والتفجّع والتأسّف التي صِرنا نقيم عليها، ونحن نتفرّج على هذه المشاهد، ولولاها مشاعرُ الغيظ من العجز الكثير الذي نحنُ فيه، أفرادا ومجاميع، لولاها هذه كلُّها وغيرُها التي في حشايانا، لجاز لكلٍّ منّا أن يضحك، بأقصى ما في وُسعه أن يضحك، وهو يقرأ أن نتنياهو، وهو يُخبِر مُحاورَه في برنامج صباحيٍّ في الإذاعة الأميركية الوطنية (NBR)، يوم الجمعة الماضي، عن "منح غزّة مستقبلا مختلفا" هدفا ثالثا (بعد الإجهاز على "حماس" وإعادة "المخطوفين") للحملة العسكرية التي يشنّها جيش الاحتلال منذ أزيد من 40 يوما، يتحدّث عن ضرورة إحداث "تغيير ثقافي" في غزّة، "مماثلٍ للذي حدَث في ألمانيا واليابان، عندما انتقلتا من الحكم الاستبدادي إلى الديمقراطي بعد استسلامهما للحلفاء". والظاهر أن رئيس حكومة إسرائيل، إذ يُسرِف، منذ موقعة 7 أكتوبر، في إطلاق التصريحات، يشرّق ويغرّب في ثرثراتٍ لا تدلّ على غير المرض المستعصي في شخصِه، زهْوه بنفسِه وإفراطه بثقتِه بذاته، غير أن قرائن ظاهرةً تؤشّر إلى أنه يُكابد في الأمريْن، بفعل أخبار يوميةٍ تأتي إلى مكتبه، عن قتلٍ يتجندل فيه جنودٌ من "جيش الدفاع"، وأيضا بفعل خيبتِه الحادّة، لمّا تصوّر أن مزيدا من الإجرام في مستشفيات قطاع غزّة ومدارسه وفي بيوت العُزّل، سيضطرّ كتائب القسّام وشركاءها في المقاومة الفلسطينية الباسلة إلى أن يسلّموه "المخطوفين" من دون صفقاتٍ أو أيّ تفاهماتٍ على أيّ مبادلات، ولكنّ شيئا من هذا لا يحدُث.
كان وزير الخارجية الروسي، لافروف، قد أجاب عن سؤال بشأن كلامٍ قاله رئيس أوكرانيا، زيلينسكي، بأن مضمون ما يثرثر به الأخير يكون حسب نوع الويسكي الذي يحتسيه. وهنا قد يجوز (أو لا يجوز؟) القياس، فكثيرا ما يفقد نتنياهو، في متاهتِه الراهنة، اتّزانه في الكذب الكثير الذي لا يتوقّف عنه، ما قد يعود إلى شيءٍ يشابه ما رمى به الوزيرُ الروسي خصيمه الأوكراني، وإلا كيف تأتّى لرجلٍ حكم في إسرائيل 17 عاما، واحتكّ بالعالم، واختبر الفلسطينيين جيدا، في غزّة خصوصا، أن يتخيّل "تغييرا ثقافيا" يجب حدوثُه بين ناس قطاع غزّة في اليوم التالي لانتهاء المقتلة ومحدلة التمويت النّشطة ضدّهم، سيما وقد ماثَله بالذي استجدّ بين الألمان واليابانيين في اليوم التالي لانتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد أوجز هذا "التغيير" بعدم "وجود حماسٍ جديدة"، وعدم عودة "الإرهاب". ويُفرط الرجل في الشرح لسامعيه في الإذاعة الأميركية، بأن "القوة الوحيدة القادرة على تأمين ذلك الآن هي إسرائيل".
والبادي أن نتنياهو يساهم هنا بما يشبه المونولوغ في المهرجان الكلامي الذي يخوض فيه كثيرون، سيما في البيت الأبيض والخارجية الأميركية (ومعلّقون عربٌ مستعجلون)، عن "اليوم التالي" في قطاع غزّة، فقد جنح بعيدا في بناء أوهامه بشأن اليوم غير المنظور، أو كأنه يحاول أن يخدِش الإيقاع الرتيب للجدل بينه وبين الرئيس الأميركي، بايدن، فيأتي بقصّة "التغيير الثقافي" البالغة الفكاهة والسُّخف، فالأخير يلحّ على دورٍ للسلطة الفلسطينية في قطاع غزّة، أمّا هو فلا يُمسك بتصوّر محدّد، وإنْ لا يرى مثل هذا الدور كافيا ولا مناسبا، وقد شدّد غير مرّة على "وضعٍ أمنيٍّ جديد"، بالتوازي مع عدم تعليم الطلّاب والتلاميذ في القطاع ما يتعلّمونه منذ سنواتٍ من "كراهيّة" لإسرائيل. ويستبدّ هذا الأمر في مخيال رئيس حكومة الحرب والمستوطنين، فلا يكفّ عن تكراره، وفي ظنونه أن ثمّة من الفلسطينيين من يُنصت إلى تخاريفه هذه، عندما يفترض أنهم، بعد مزيدٍ من المذابح اليوميّة في أطفالهم ونسائهم وشبابهم وشيوخهم، وفي هدم بيوتهم، وتدمير كل أسباب الحياة الطبيعيّة لهم، سينفُضون عنهم كراهيّتهم إسرائيل وعداءهم لها، ثم يستغرقون في محبّتها، واشتهاء العيش معها. سيُعلّمون أبناءهم عن أخطائهم البليغة لمّا استنكفوا عن استقبال الطيّارات الزنّانة والصواريخ وقذائف الدبابات لجيش الاحتلال بما تستحقّه من ترحيبٍ واحتفاء ... سيُباشرون "التغيير الثقافي" الذي سيصيّر حالهم كما حال اليابانيين والألمان.
هل من بقايا عقلٍ في أدمغة نتنياهو وأصحابه؟