تغطية شائنة لمجزرة المواصي

18 يوليو 2024
+ الخط -

ارتكبت إسرائيل، يوم السبت الفائت، مجزرة مروّعة في منطقة المواصي في خانيونس، ليست الأولى وإنْ كانت الأسوأ في التناول الإعلامي، وعلى الأخص من قنوات "عربية" بعينها، فصحيحٌ أن لكل وسيلة إعلام خطَها التحريري، إلا أن ذلك لا يجوز، في أي حال، أن يكون على حساب الحقيقة نفسها. والمقصود هنا هو الخبر، والخبر أن إسرائيل قصفت بطريقة وحشية وقتلت، ثم ادّعت أن سبب ذلك ملاحقتها قائد كتائب القسّام محمد الضيف.

الخبر هو القتل ومحاولة الاغتيال هي الادّعاء. ولنقرأ بيان مدير شؤون وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، في غزّة سكوت أندرسون، لنتبيّن هول الخبر، ما يجعله يفرض نفسه على أجندة أي تغطية إخبارية. يقول أندرسون إنه شاهد بعضاً من "أفظع المشاهد" التي رآها خلال شهور الحرب التسعة، فقد رأى أطفالاً مبتوري الأطراف وآخرين مشلولين وغير قادرين على تلقّي العلاج، كما رأى، بحسب بيانه، أمهات وآباء لا يعرفون ما إذا كان أطفالهم على قيد الحياة أم لا.

لكن قناة إخبارية بعينها لم تر في الخبر سوى الادّعاء الإسرائيلي الذي بُني أصلاً للتغطية على الخبر الأساسي، وهو محاولة اغتيال محمد الضيف، الأمر الذي يمكن اعتباره، بدون أدنى تحرّز تبنّياً للرواية الإسرائيلية، بل ترويجاً لها. وزادت هذه القناة على ذلك بالتمهيد لما تظنّ أنه الآتي، أن الاغتيال تم فعلاً، فأعدت بروفايل أو بورتريه عن الضيف، وأعادت بثّه بإفراط. والبروفايل نوعٌ من التقارير الإخبارية لا تلجأ إليه وسائل الإعلام إلا في الأحداث الكبرى، مثل الاغتيالات أو نتائج الانتخابات إذا كانت مثيرة وفاز بها ساسةٌ لا يعرف المشاهد الكثير عنهم، أو في حالات مشابهة تُوجب التعريف بالشخصية المعنيّة لارتباطها بحدثٍ كبير.

كانت تغطية تلك القناة "رغائبية"، وتسبق الخبر نفسَه نحو خلاصاتٍ تريدها هي، فإذا جاء ما ينفي ادّعاءها لوت عنقَه، أو تجاهلته، مثل تصريحات أو بيانات حركة حماس التي تعاملت معها تلك القناة بالحدّ الأدنى من الاهتمام، بل إنها لم تُعنَ بالتوسّع في تصريحات الجيش الإسرائيلي، وتطوّر الرواية الإسرائيلية في ما يتعلق بالمجزرة والأهداف منها، بل انتقلت إلى محورٍ آخر لا يقلّ سوءاً، فاستضافت نوعاً محدّداً من الضيوف، من رام الله والقاهرة تحديداً، لم يكن من هدفٍ لهم سوى تجريم "حماس" التي قالوا إن قادتها يتّخذون من المدنيين دروعاً بشرية، ما يعني تبرير الجريمة الإسرائيلية. وعندما أخطأت القناة إياها في اختيار أحد الضيوف، وقد فوجئت أنه يدافع عن المقاومة ويدين الجريمة الإسرائيلية، لم يجد مذيع النشرة في تلك القناة أي حرجٍ في تقريع الضيف الذي يتجاهل مسؤولية "حماس" عما حدث!

نتساءل هنا عن الصحافة، عن معاييرها، فلا أحد طالب هذه القناة أو سواها بأن تنحاز للغزّيين، بل أن تسعى إلى تحرّي الموضوعية، أو النزاهة في التغطية، ما أمكن، لكنها فعلت الأسوأ بالانحياز الفج والوقح للرواية الإسرائيلية التي تغيّرت في نهاية يوم السبت الدامي ذاك، فلا الضيف قُتل في القصف الوحشي، ولا معلومات مؤكّدة عنه، لكن القناة لم تُعنَ كثيراً بتصريحاتٍ، في هذا المعنى، صدرت عن رئيس وزراء إسرائيل نفسه، وواصلت العزف على وتر تحميل "حماس" مسؤولية مقتل نحو 90 غزّياً أغلبهم من الأطفال والنساء، وإصابة ما لا يقلّ عن ثلاثمئة آخرين. وجاءها المَدَد من رام الله للأسف، ببيانٍ من الرئاسة الفلسطينية تجاوز أي سقفٍ يمكن تخيّله من التخلّي عن الدور والمسؤولية الوطنية. ولا يُعرف من كتب ذلك البيان الشائن الذي لا يليق بأي فلسطيني يتنفّس الهواء على هذه الأرض، كما لا يليق بحركة فتح، العمود الفقري للسلطة الفلسطينية، ولا بنضالات رجالاتها الذين اغتالت إسرائيل كثيرين منهم في غير بلد عربي وأوروبي.

لا شك لدى كاتب هذا المقال على الأقل أن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات يتقلّب في قبره، وأن رفاقه العظماء من أبي جهاد إلى أبي إياد وسواهم يفعلون الشيء نفسه، فحتى في كوابيسهم، عندما كانوا أحياء، لم يتخيّلوا أن يأتي زمن على الفلسطينيين يتبرّأ فيه ناس منهم من نضالاتهم، فما بالك بأن يحمّلوا من يناضل ويقاوم ويسعى إلى التحرّر من الاحتلال المسؤوليةَ عن جرائم إسرائيل بحقّ شعبهم.

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.