تصفية "الحديد والصلب" في مصر .. ونماذج سورية

05 فبراير 2021
+ الخط -

ظهر القطاع العام في بعض الدول العربية، خصوصاً مصر وسورية، لكي يضطلع بدورٍ يحقق لها الثروة ويعزّز اقتصادها، من جهة، ويكون ضامن استقلالها الحديث عن المستعمر، من جهة أخرى. وجرى تعزيزه بقوانين، رفعت من مكانته وجعلت المساس به أشبه بالمساس بالمقدّسات، فبرز على شكل قلاع تحمي هذه البلدان من تحكّم الدول الاستعمارية، ومن إعادة فرض سيطرتها عبر ما سمي الاستعمار الحديث الذي ما إن خرج من الباب جارّاً جيوشه خلفه، حتى حاول أن يعود من نافذة الاقتصاد. ولكن، مع الانفتاح في مصر، أواخر سبعينيات القرن الماضي، ومع اعتماد ما سمي اقتصاد السوق الاجتماعي في سورية، في تسعينيات القرن الماضي وبداية القرن الجاري، بدأت هذه القلاع تتهاوى وتتهاوى معها منعة هذه الدول.

يجري الكلام هذه الأيام عن تدمير أهم قلعة من قلاع الاقتصاد المصري، شركة حلوان للحديد والصلب المصرية، التي تعد من أضخم الشركات في هذا المجال في المنطقة العربية. والشركة التي تأسست سنة 1954 كانت من أهم شركات القطاع العام المصري التي نشطت في مجال استخراج خام الحديد من المناجم المصرية ومعالجته لتصنيع الحديد الصلب منه، وبيعه في أسواق مصر والمنطقة. وأعلن مجلس إدارتها عن تصفيتها، بعد اجتماع الجمعية العامة للشركة في 11 من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني). وإذ أرجع الإعلام المصري سبب التصفية إلى الخسائر التي منيت بها خلال السنوات الأخيرة، إلا أن الحقيقة تقول إن عامل سوء الإدارة يعد من أهم العوامل التي أدت إلى خساراتها تلك، بسبب ما يترتب عليه من فسادٍ أعاق تجديد آلاتها وأفرانها المتهالكة، وأدّى إلى سوء في التسويق وسوء في إدارة اليد العاملة فيها.

لا يمكن النظر إلى الخصخصة سوى أنها تنفيذ لشروط صندوق النقد الدولي للفوز بقروضٍ درجت الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة على استجرارها منه

ويبقى السر وراء هذه التصفية، وهو استكمال إضعافها من أجل خصخصتها، أي بيعها للقطاع الخاص الذي ينمو باضطراد على حساب القطاع العام الذي بدأ يضعف في مصر مع مسلسل تصفية شركات عامة كبيرة، منها 29 شركة ستجري تصفيتها خلال عام، 2020 - 2021، تمهيداً لخصخصتها. ولا يمكن النظر إلى هذه الخصخصة سوى أنها تنفيذ لشروط صندوق النقد الدولي للفوز بقروضٍ درجت الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة على استجرارها منه، بديلا عن زيادة مداخيل البلاد عبر زيادة الإنتاجين، الصناعي والزراعي.

وتستند مجالس إدارة شركات القطاع العام في تخصيصها إلى تخويلٍ منحها إياه قانون الخصخصة رقم 203 الذي يمنحها حق بيع أصولها. ويهدف رجال السلطة من خطواتٍ كهذه إلى إخفاء الإثراء غير المشروع الذي يحققونه من الخصخصة، إضافة إلى تمكين شركات الجيش ورجالاته من الاستيلاء على الشركات المصنفة خاسرة، وبالتالي ضمان النظام استمرار ولائهم له. ويجري ذلك كله من دون أدنى اهتمام بمعارضة الشعب المصري لهذه الإجراءات التي تسلبه حقوقه فيها، أو من دون الاهتمام بما يترتب عليه من بطالة وفقر وتشرّد، إضافة إلى انعكاس ذلك تضخُّماً نتج عن الاعتماد على الاستيراد لتغطية النقص الذي يسببه تعطّل إنتاج هذه الشركات.

تمكين شركات الجيش ورجالاته في مصر من الاستيلاء على الشركات المصنفة خاسرة، وبالتالي ضمان النظام استمرار ولائهم له

في هذا السياق، ولكن في سورية، ظهر اتجاه إلى تقليل الاعتماد على الإنتاج الصناعي الذي كان القطاع العام عماده، والاتجاه إلى استيراد سلع كثيرة منافسة لمثيلاتها التي تصنع في البلاد. وكانت وراء هذا الاتجاه رؤية تُروّج لما سمته اقتصاد السوق الاجتماعي، بينما هو في الحقيقة اتجاه ليبرالي يتبنّى مبدأ اقتصاد السوق الحر الرأسمالي، ويتناقض مع اتجاه البلاد الذي سمّاه حزب البعث الحاكم اتجاها اشتراكيا، في حين أنه كان أقرب ما يكون إلى رسمالية الدولة. وتزامن هذا التوجه مع اتباع الحكومة سياسة رفع الدعم عن بعض السلع التموينية والمحروقات. ثم أخذ هذا الاتجاه يتوضح أكثر مع ظهور علائم اقتصاد الخدمات، حين بدأ تأسيس الشركات التجارية التي تستورد السلع المنافسة للسلع المحلية الصنع، وشركات استيراد السيارات والمصارف الخاصة وشركات التأمين الخاصة وشركات الاتصالات ومعدّاتها وغيرها من الشركات التجارية. في هذا الوقت، أخذ القطاع العام يذوي بعد تراجع الاهتمام به والاتجاه إلى تلزيم الأعمال الإنشائية للقطاع الخاص، بينما تُحرم منها شركات القطاع العام الإنشائية ذات الخبرة التي تضم آلاف العمال، والتي كانت لها يد بيضاء في دراسة وإشادة معظم مرافق البلاد الاقتصادية من سدود وطرقات ومصانع وجامعات ومدارس ومشاف وغيرها، بخبرات سورية محضة.

كان راعي هذا التوجه نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية السابق، عبد الله الدردري، الذي لم يكن يُخفي رغبته في إجراء (إصلاحات) هيكلية على الاقتصاد، تنسجم مع وصفات البنك الدولي، على الرغم من أن سورية لم تكن مدينةً لهذا البنك، ولا يوجد ما يلزمها بتطبيق وصفاته التي دمرت اقتصادات دول كثيرة في العالم الثالث. وكان من هذه الوصفات تخفيض الضريبة على المستوردات وزيادة الاستيراد على حساب الصناعة الوطنية، من دون أي تشريعٍ يلحظ حماية هذه الصناعة، فتوقفت المصانع والورش الصغيرة عن العمل، وتحوّل عمالها إلى عاطلين من العمل. كذلك تخفيض الدعم على الكهرباء والمحروقات، وانعكس هذا سلباً على الزراعة، خصوصاً في محافظة الحسكة بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج، ما أدّى إلى التوقف عن استثمار الأراضي الزراعية في هذه المنطقة التي كانت تعد سلة غذاء سورية، خصوصاً من الحبوب، إضافة إلى هجرة المزارعين أراضيهم إلى دمشق وحلب، وغيرهما من المحافظات، بحثاً عن عملٍ مأجور.

نهج تصفية شركات القطاع العام الذي كانت ضحيته شركات دعمت اقتصاد البلاد عشرات السنين

ويستمر هذا النهج هذه الأيام، على الرغم من حاجة الدولة إلى القطاع العام لانتشالها من الأزمات التي تدمّر حياة المواطن، ولضرورة اضطلاعه بجزء من مهمة إعادة البناء التي تروّجها الحكومة السورية، فقد صدر تفويض من رئاسة مجلس الوزراء السوري لوزارة الصناعة لتشكيل لجنة تكون مهمتها "إعداد المشاريع التشريعية لحل جميع الشركات المدمّرة كلياً، والمتوقفة عن العمل، والتي لا تحقق الريعية الاقتصادية والجدوى المطلوبة منها". وهو تفويضٌ يناقص كل الشعارات التي تتحدّث عن أهمية القطاع العام والتغنّي بقوته، لما له من دور في منعة الدولة. وصدر هذا التفويض، في بداية أغسطس/ آب 2020، مع العلم أنه قبل أسبوع من صدوره، اعتمدت الجلسة الأسبوعية لمجلس الوزراء خطة وزارة الصناعة القاضية بـ"تعزيز دور القطاع الصناعي في التنمية الاقتصادية، وإعادة إقلاع جميع المنشآت المتوفقة، وزيادة الإنتاج وتنويعه لتلبية حاجة السوق المحلية". وهو تناقضٌ يضرب كل التوقعات التي يضعها المراقب في اعتباره، حين يسمع حديث الحكومة السورية عن استغلال جميع الإمكانات المتاحة لديها من أجل مرحلة إعادة الإعمار. كما أنه دليلٌ على استمرار السير في نهج تصفية شركات القطاع العام الذي كانت ضحيته شركات دعمت اقتصاد البلاد عشرات السنين، وحققت فترة رخاء لعماله في مراحل معينة.

أرجع كثيرون أسباب اندلاع الاحتجاجات في سورية قبل عشر سنوات إلى الفقر الذي نجم عن السياسات النيوليبرالية التي فرضها النائب الاقتصادي عبد الله الدردري، وأدت إلى تدهور الاقتصاد السوري، وأدّت بدورها إلى ازدياد الفقر والتفاوت الطبقي والبطالة وغيرها من الأمراض الاجتماعية والاقتصادية. والأمر ذاته ينسحب على مصر التي عانى أهلها من المصاعب نفسها، وأدّت إلى اندلاع ثورة 25 يناير في 2011. ومن هنا، يشعر المرء بالاستغراب لمضي حكومات هذين البلدين في اتباع السياسات الاقتصادية ذاتها، متناسين القاعدة المدرسية: "المقدمات الخاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة".

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.