تصرُّفٌ بالأموال الأفغانية أم عقابٌ جماعي؟

22 فبراير 2022

أوراق نقدية في سوق شاهزادا في كابول (14/12/2021/الأناضول)

+ الخط -

إذا كان الرئيس الأميركي قد أراد أن يبرهن أنه أنهى الحرب في أفغانستان عبر سحب قوات بلاده منها، فإن الحقيقة تقول إنه لم يفعل ذلك، بل شنَّها بأشكالٍ أخرى، أخذت آثارها تظهر بسرعة تفوق المتوقع. لقد بدأها بتفعيل العقوبات المفروضة على طالبان، في أعقاب خروج قواته، ثم أردف العقوبات باحتجاز احتياطي البنك المركزي الأفغاني في الولايات المتحدة. وقبل أيام أصدر قراراً بتوزيع نصف هذا الاحتياطي على ضحايا تفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وهو ما يشير إلى أن حربه الجديدة على وشك أن تستعر، أما أسلحتها فهي العقوبات هذه المرة، والتي قد تكون دموية وتدميرية أكثر من الحرب التي امتدَّت عقوداً.
ما إن أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن سحب قوات بلاده من أفغانستان، أواخر أغسطس/ آب الماضي، حتى سارعت إدارته إلى تجميد احتياطي البنك المركزي الأفغاني في أميركا، والذي يصل إلى 7 مليارات دولار، علاوة على تجميد ملياري دولار آخرين من الأموال الأفغانية المودعة في بنوك سويسرية وألمانية وبريطانية وإماراتية، والتي يعود جزء منها للقطاع الخاص الأفغاني. ومدفوعاً بغريزة السطو التي يبدو أنها لم تفارق لاوعي الأميركيين منذ استيلائهم على أراضي السكان الأصليين قبل 500 سنة، أصدر بايدن، قبل أيام، أمراً تنفيذياً أعلن بموجبه "حالة طوارئ لمواجهة خطر انهيار الاقتصاد الأفغاني"، مقرراً الإفراج عن تلك الأموال بعد اقتطاع نصفها. وكانت هذه الأموال قد جُمِّدت، عملاً بالعقوبات المفروضة على قادة طالبان، من سنة 2001، والذين سيطروا على البلاد بعد انسحاب القوات الأميركية والغربية منها. غير أن نتائج هذا التجميد سرعان ما انعكست سلباً، وبشكل مباشر على الشعب الأفغاني؛ إذ جعلت 60% من السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي. وعلى الرغم من أن وزارة الخزانة الأميركية سمحت بوصول الأغذية والأدوية إلى البلاد عبر برامج الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، إلا أن هذا لن يكون بمقدوره وقف ازدياد نسبة غير القادرين على تأمين ما يكفيهم من طعام، بل لن يمنع حدوث المجاعة الوشيكة، وذلك بسبب توقف عجلة اقتصاد لن تستطيع سياسة المساعدات التي اتبعتها الإدارة الأميركية والأمم المتحدة إنقاذه من الانهيار.

لا يخطر ببال الرئيس الأميركي أو غيره من المسؤولين الغربيين أن عقوبات من هذا النوع ستكون لها تبعات على الشعب الذي بات لا يجد وقوداً للتدفئة أو حتى لصناعة خبزه

وكما في كل العقوبات التي يفرضها الغرب على الحكومات حول العالم، اعتبرت الولايات المتحدة طالبان هي الحكومة الأفغانية، ولذلك قررت فرض قيود على التعاملات المالية مع الحكومة، وبالتالي مع كل القطاعات التي تتبع لها أو حتى القطاعات الاقتصادية المستقلة التي لها تعامل مع الخارج، سواء استيراد أو تصدير أو صناعة وإنتاج. وانعكس تقييد حركة الأموال إلى البلاد ومنها تضرراً سريعاً أثَّر على القطاعات الإنتاجية والعائلات والأفراد على السواء، وليس على أعضاء حركة طالبان فحسب. وكما كل الشعوب التي تعاني من عقوبات، لا يخطر ببال الرئيس الأميركي أو غيره من المسؤولين الغربيين أن عقوبات من هذا النوع ستكون لها تبعات على الشعب الذي بات لا يجد وقوداً للتدفئة أو حتى لصناعة خبزه، فما بالك بالمؤسسات الإنتاجية والصناعية والخدمية التي تحتاجه لعملها، كما تؤدي إلى تضرر قطاع الصحة، عندما تعجز المؤسسات الطبية عن تقديم خدمات الاستشفاء أو إجراء العمليات الجراحية للأسباب ذاتها الخاصة بفقدان المحروقات والعجز عن دفع المستحقات المالية للكادر الطبي، إضافة إلى تضرر قطاع التعليم بسبب عجز المؤسسات عن صرف رواتب المدرسين.
بعد مضي عشرين سنة على الغزو الأميركي والغربي لأفغانستان، وبعد عقدين من السيطرة عليها وتفصيل الأميركيين نظام حكم خاص بها، لم يستطع هذا النظام، ومن خلفه الإدارة الأميركية، بناء مؤسسات قوية، أو ربما قد منعوا ذلك، وهو ما تأكَّد بعد انسحابهم وظهور هشاشة المؤسسات التي تركوها خلفهم، سواء مؤسسة الجيش أو مؤسسات الحكم والإدارة، والتي انهار عدد كبير منها، وأصبحت أخرى على وشك الانهيار، علاوة على الانكماش الاقتصادي السريع الذي أعقب فرض العقوبات.
الآن، ومع ظهور نتائج العقوبات الأميركية، ومع تصرف الولايات المتحدة بالأموال الأفغانية، يظهر أن السياسة الأميركية تريد إعادة البلاد إلى ما كانت عليه قبل عشرين سنة، بلاد يموت الناس فيها عمداً. ولكن قبل عشرين سنة كان الموت منتشراً بسبب الإرهاب والاقتتال والانقسام التي تسببت بها الحرب العسكرية، أما الآن فسيموت الناس بسبب الجوع الذي ستخلفه الحرب الجديدة، الاقتصادية. وإن كانت إدارة بايدن تعتقد أنها تعاقب طالبان من أجل ردعها وإدخالها حظيرة الإذعان لسياستها، فإن هذه الممارسات ستزيد الحركة راديكاليةً، وربما ستتسبب بظهور حركات أخرى أكثر راديكالية من طالبان، وقد تتسبب أيضاً في تقوية تنظيم الدولة الإسلامية، ومده بدماء جديدة يصبح بعدها من القوة بحيث يتحدى سلطة طالبان نفسها، ويتخذ أفغانستان قاعدة للانطلاق بعملياته الخارجية.

أموال للشعب الأفغاني يمنع القانون الدولي أو حتى الأميركي ذاته تجميدها فما بالك بالاستيلاء على جزء منها

بعد الانسحاب الأميركي والغربي من أفغانستان، سيطرت طالبان على الحكم وسيَّرت أمور البلاد باعتبارها الجهة الأكثر تنظيماً وقوة من بين الحركات السياسية أو المسلحة في البلاد. وقد خرجت أصواتٌ غربية، من بينها الحكومة الألمانية وبرلمان مجلس أوروبا، تدعو إلى التحاور مع طالبان باعتبارها حقيقة واقعة لا يمكن تجاوزها أو إهمالها، بسبب موقع أفغانستان المؤثر في المنطقة وبسبب حساسية الحركة. وبينما كان الدافع وراء هذه الأصوات أخلاقياً يتعلق بأحوال اللاجئين الأفغان ومنع المجاعات وموجات النزوح والانتهاكات، وضعوا شروطاً، منها احترام الحركة حقوق الإنسان والسماح بالمشاركة بالحكم ونبذ الإرهاب وغيرها، ضماناً لإيصال المساعدات الإنمائية من أجل تجنيب البلاد الانهيار الاقتصادي. غير أن هذه الدعوات اصطدمت بنيات الولايات المتحدة التي ظهرت عبر تجديد العقوبات وتجميد الأصول المالية، والتي تخالف أي دافع أخلاقي، حين لا ترى في هذه الأموال سوى أنها أموال طالبان، بينما هي أموال الشعب التي يمنع القانون الدولي أو حتى القانون الأميركي ذاته تجميدها فما بالك بالاستيلاء على جزء منها.
يقامر الرئيس الأميركي بسياسته تجاه أفغانستان وبقراره الأخير حين يضع مصالح بلاده وأمنها القومي دافعاً لاتخاذه. وإذ سمّى قراره التنفيذي إعلاناً لحالة طوارئ لمواجهة خطر انهيار اقتصاد البلاد، وخصَّص الجزء الباقي من الاحتياطي النقدي لتمويل المساعدات، سيتسبب هذا القرار بانهيار حتمي، كون المساعدات الإنسانية لا تبني اقتصاداً ولا تقيه من الانهيار. وستتحمل دول الجوار وأوروبا، وربما المجتمع الدولي برمته، تبعات قرار العقاب الجماعي هذا، في بلادٍ لطالما دفعتها ظروفٌ مماثلةٌ لأن تصبح مسرحاً للتطرف ومنطلقاً له.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.