تشنّج فرنسا ضد مسلميها وهواجس التلاشي
لا تتوانى فرنسا تمضي في جهودها الرامية إلى إعادة صياغة هوية مسلميها وفرض منظومة ثقافية وسلوكية صارمة عليهم، بذريعة الاتساق مع "مبادئ تعزيز احترام قيم الجمهورية"، وهو قانون أقرّه البرلمان الفرنسي عام 2021، ويقوم، في جوهره، على "مكافحة الإسلام الانفصالي" أو "الانعزالية الإسلامية". خطر "الانفصالية الإسلامية"، كما وصفها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عام 2020، لا يتعلّق بتهديدٍ للأمن القومي للبلاد أو ممارسة عنفٍ ضد مواطنيها والمجتمع، بل هو مرتبط بخرقة قماشٍ تضعها امرأة فرنسية مسلمة على رأسها، أو لباس محتشم ترتديه فتاة إلى المدرسة. والأصل أن الغرب العلماني الذي يحتفي بالتعدّدية في مجتمعاته واستيعاب "الآخر" المختلف دينياً وثقافياً لا يتدخّل في المجال الخاص لمواطنيه، إلا أن فرنسا، منذ عقود، تبيح لنفسها، بذريعة نسختها الصارمة للعلمانية المعروفة بـ"اللائكية"، أن تقوم بمحاولة صهر مكوناتها المختلفة وإلغاء خصوصياتهم الثقافية والدينية كمتطلب من متطلبات "الحيادية الدينية". عملياً، لا تختلف فرنسا هنا عن أفغانستان طالبان، أو إيران في محاولة فرض الحجاب على النساء في بلديهما، وهو أمرٌ يفترض أن فرنسا تدينه، ولكنها ترى القذى في أعين الآخرين ولا ترى العود في عينيها.
في سياق افتعال الأزمات مع مسلميها، أعلنت الحكومة الفرنسية، نهاية أغسطس/ آب الماضي، منع ارتداء العباءة في المدارس بزعم "طابعها الديني الذي يثير جدلاً". ولم يتردّد وزير التعليم، غابرييل أتال، في القول إن "العلمانية ليست قيداً، (بل) إنها حرية". ولا يُعرف عن أي حرية يتحدث أتال، وهو يضع مصير آلاف التلميذات الفرنسيات المسلمات في مهبّ الريح إن تجرّأن على مخالفة "القيود" التي لا تفتأ حكومات بلاده المتعاقبة تفرضها على اختيارهن الشخصي في مسألة لباسهن. ليس هذا فحسب، بل إن ماكرون الذي تعهد بالحزم في قرار تطبيق حظر العباءة يكيفه على أنه "تحدٍ للنظام الجمهوري"، وليس تعسّفاً وتمييزاً ضد المسلمين أولاً وأخيراً.
لا تقتصر الإسلاموفوبيا في فرنسا على اليمين المتطرّف، بل إنها تتصاعد في أوساط يمين الوسط، وحتى بين بعض تيارات اليسار
منذ عام 1989 تستهدف السلطات الفرنسية المسلمات بين مواطنيها بقوانين محاربة الحجاب، بذريعة أنه انتهاك للعلمانية، ذلك أنه، كما تقول، رمز يكشف الانتماء الديني لصاحبه. وللأسف، دائماً ما تساوق القضاء الفرنسي مع هذه القوانين المُجحفة. وفي عام 2004، حظرت فرنسا ارتداء الحجاب في المدارس إلى جانب الصلبان المسيحية والقبّعات اليهودية. تبع ذلك، في عام 2010، حظر كامل على أغطية الوجه مثل البرقع والنقاب في الأماكن العامة. وفي 2016، بدأت حرب جديدة في البلدات والمدن الفرنسية على "البوركيني" الذي يغطّي الجسم كله ما عدا الوجه، وتلبسه بعض المسلمات خلال السباحة. وفي مطلع عام 2022، صوّت البرلمان الفرنسي على منع النساء والفتيات من ارتداء الحجاب في أثناء ممارسة الرياضة، بذريعة أنه يشكّل خطراً على سلامة الرياضيين الذين يرتدونه، رغم أن الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) وغيره من الاتحادات الرياضية يرون عكس ذلك. هذه السياسات الفرنسية التي تستبطن الإسلاموفوبيا كانت محلّ إدانة، عام 2018، من لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، والتي عدّتها انتهاكاً للدين، ويمكن أن تؤثر على النساء المسلمات من خلال إبقائهن "حبيسي منازلهن، وإعاقة وصولهن إلى الخدمات العامة وتهميشهن".
لا تتعلّق المسألة بحماية "القيم العلمانية للجمهورية"، بل ببنية (وكنه) فرنسا نفسها، دولة إمبريالية، قامت على الإلغاء والإقصاء للآخر المخالف
لا تقتصر الإسلاموفوبيا في فرنسا على اليمين المتطرّف، بل إنها تتصاعد في أوساط يمين الوسط، وحتى بين بعض تيارات اليسار، مدفوعين بالتنافس على التأييد الشعبي في بلدٍ تتنامى فيه موجات التطرّف والشعبوية. يريد هؤلاء بلداً علمانياً "نقياً"، وهم يروْن في المسلمين التحدّي الأكبر لذلك النقاء المزعوم وتهديداً لقيم اللائكية الصارمة التي أرسيت قواعدها عام 1905 في سياق محاولات الدولة تحجيم نفوذ الكنيسة الكاثوليكية حينئذ. المفارقة هنا أن فرنسا لا تأبه بمسألة دمج مواطنيها من المسلمين الذين يناهزون ستة ملايين شخص، حين يتعلق الأمر بالأحياء العشوائية التي يعيشون فيها، والتمييز العنصري الممارس ضدّهم، والأوضاع الاقتصادية المُزرية التي يرزحون تحت وطأتها. وبالمناسبة، ولد مسلمون كثيرون ونشأوا في فرنسا بفعل وجودها في بلادهم حين كانت تحتلها وتنهب ثرواتها، كالجزائر. بمعنى أن فرنسا هي من ذهبت إليهم أولاً، لا هم من بادروا إليها، ثمَّ إنها كانت بحاجةٍ إلى أيديهم العاملة الرخيصة، قبل أن تستفيق على "القنبلة الديمغرافية" المزعومة التي تهدّد "قيمها العلمانية"، رغم أن اقتصادها لا ينهض من دونهم.
تؤكّد دراسات عدة أن فرنسا هي قلب الإسلاموفوبيا الأسود في أوروبا، وكلنا نذكر تصريحات وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، في شهر مايو/ أيار الماضي، التي قال فيها إنّ "الإرهاب الإسلامي السنّي" هو "الخطر الأول" بالنسبة لبلاده وأوروبا. قبل ذلك، كان قد كُشِفَ أن وزارته طلبت من مؤسّسات تعليمية في البلاد إجراء "تقييم لمعدّل التغيّب الذي سجّل (من طلاب مسلمين) بمناسبة عيد الفطر". إذن، لا تتعلّق المسألة بحماية "القيم العلمانية للجمهورية"، بل ببنية (وكنه) فرنسا نفسها، دولة إمبريالية، قامت على الإلغاء والإقصاء للآخر المخالف، كما في مذابح البروتستانت في القرن السادس عشر، كما أنها لم تتورّع يوماً عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية عبر استعمارها الوحشي في أفريقيا والأميركتين وآسيا. من ثمَّ لا عجب أن ترى توالي موجات طردها من أفريقيا، كما في مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو والنيجر، وفي عموم منطقة الساحل الأفريقي وجنوب الصحراء. كما أنه لا عجب أن ترى تصاعد تشنّج فرنسا داخل حدودها ضد مواطنيها من المسلمين، فتاريخُها حافلٌ بمحاولات الإبادة الثقافية في حقّ غيرها. فرنسا اليوم قلقة خائفة، إذ يتقلّص نفوذها العالمي، وثقافتها تُلفظ، وما تفعله بحقّ مسلميها هو زفرات المرتعد الذي يخشى التلاشي، ولكنه لا يعرف كيف يحافظ على وجوده أو يجدّده.