تسويق الصراعات المغاربية
اطلّعت قبل أيام على "فيديو" من لقطتين: يبدو في الأولى، بالأبيض والأسود، ملك المغرب وهو يلقي خطاباً مِنْ على منصة الجمعة العمومية في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، يطالب فيه بإنهاء احتلال الجزائر، مؤكّدا تضامنه مع نضال شعبها في سبيل الحرية والاستقلال. اللقطة الثانية بالألوان، يعلن فيها رئيس جمهورية الجزائر، من المنصّة الأممية نفسها، تضامنه مع "شعب الصحراء الغربية"، ويطالب باستقلاله، بعبارةٍ فيها حرارة المناصرة والدعم المطلقين. ويمكن تقدير الفارق الزمني بين اللقطتين بأزيد من ستين سنة، وهو الفارق نفسه تقريبا الذي يؤرّخ لجميع الصراعات التي قامت بين الدول المغاربية حسب المراحل والتطوّرات، أو كانت سياقاً لحوافز كثيرة فجّرها فعليّاً، فانتهت إلى ما انتهت إليه، إما بالقطيعة الشاملة والتامة أو بالفتور التاريخي المزمن الذي جمّد العلاقة في درجة أدنى من الصفر، أو بالتجاهل التلقائي المبرّر باختلاف النظم والتوجّهات. ولم نجد أياً من مظاهر التضامن، أو التحالف، أو الارتباط الذي يمكن أن يوحي بصفاء الأجواء واعتدالها إلا نادرا، سواء بالإحالة على الجغرافيا التي ترتبط بها تلك الدول، وهي رقعة واحدة ممتدّة، أو على الدين واللغة، وهو المشترك التاريخي المرتبط بالإسلام، أو على المصالح والتطلّعات المتقاربة التي فجّرها الاستقلال الوطني في البناء والتقدّم والازدهار... إلخ.
ومن غرائب المسار العام الذي سارت فيه السياسات المغاربية، على اختلافها وتناقضاتها الكثيرة، أنها "شُيّدت"، في مختلف مراحل التطوّر الذاتي الخاص، على ضوء السياسات الظرفية التي حدّدها الوعي السياسي أو الاختيار الأيديولوجي، على التناقض لا على التفاهم. أما العنصر الأساسي في تحديد هذا التناقض، فلم يكن مرتبطاً بالإدراك الفعلي لحجمها في واقع كل بلدٍ على حدة، فتكون من ثم في قاعدةٍ لبناء سياساتٍ مختلفة تراعي المصالح المشتركة، بل كانت، سلباً وإيجاباً، في تجاذب وتفاعل مع الهيمنة الأجنبية المُكرِّسَة للتبعيّة التي مارستها "القطبية" في مرحلة الحرب الباردة (رغم حرارتها المفرطة في بعض المراحل)، ثم أوجبتها الأحلاف الإقليمية أو العابرة للحدود الوطنية، بحكم الاستراتيجيات التي تضعها لجني المصالح المُراد بلوغها بالقوة أو بالتفاوض.
فترات التفاهم بين مختلف البلدان المغاربية كانت محدودة في الزمن، وقليلة من حيث المبادرات المبنية على التفاهم
ومن ينظر اليوم إلى الطبيعة الخاصة التي عليها العلاقات المغاربية، ثنائية وجماعية، يلاحظ، بسهولةٍ ويسر، أن مختلف النظم الحاكمة تعيش، بتعبير مخفّف، على الهامش من تطلعات شعوبها في أمور ثلاثة مترابطة: بناء النظام الديمقراطي الفعلي الذي يمكن أن يؤسّس لتجربة مختلفة في سياسة البلاد، وإدارة شؤون سكّانها، والعمل وفق اختيارات الشرعية التي تبرّر وجودها في نظر من تتولّى حكمهم نظريا بالقانون والعدل. وهي التنمية الاقتصادية التي يمكن أن تحقّق الازدهار والعيش الكريم لمختلف الفئات الاجتماعية، رغم الصعوبات التي تضعها العولمة في وجه جميع الاختيارات المناقضة لأحكامها. وهي الحرّيات العامة وحقوق الإنسان التي لا ترتبط فقط بإقامة الديمقراطية وتشييد صرحها الفعلي، بل وأيضا، وبصورة أساسية، بالاعتراف الدستوري والقانوني بالخصوصيّات النسبيّة للمجتمعات المغاربية على الصعد، الإثني والثقافي والسياسي، بصورة خاصة، والإقرار بالتنوّع التاريخي المبني على وجود هويات، متجانسة أو متفارقة، من منظور التكامل لا التنابذ وهكذا. فالخصاص الجذري الذي يُسَوِّدُ صحائف العمل العام الممارس في البلدان المغاربية ينبني على مفهومي الفرقة والتفريق (الابتعاد والانفصال) اللذيْن كرّستهما مختلف السياسات (المحلية أو الوطنية) في مختلف المجالات بالدعوات الأيديولوجية (المناسبة) أو التبريرية، وبالتسلط الذي في معناه القمع المباشر لمختلف أشكال المعارضات التي تنشب في الحياة العامة، بالإضافة إلى محاصرة الأشكال البديلة للسُّلطات المضادّة (المجتمع المدني) التي تعلن المقاومة، أو تُحارب الفساد، أو تُطالب بالحريات... إلخ.
ولا يعدم محلّلٌ مهتم بتتبع الأوضاع المغاربية وجود ما يؤكّد هذا، ويعاكس ضدّه في الوقت نفسه، لاعتبار واحد فيه الدليل الكافي: أعني به أن فترات التفاهم بين مختلف البلدان المغاربية كانت محدودة في الزمن، وقليلة من حيث المبادرات المبنية على التفاهم. كما أعني به ثانية أن الوعي بالوحدة الإقليمية الشاملة، ولو على مستوى الشعار وظرفية بحتة، لم يصرّح بها أي نظام، مهما كان لونه السياسي واختياراته الأيديولوجية، منذ 1958 يوم اجتمعت الأحزاب الوطنية المغاربية في طنجة للتعبير عن آمالها المشتركة في النمو والتقدم، والإلحاح على أهمية المصير المشترك الذي يتطلّب تكاثف الجهود وصوغ أشكال التحالف الواجب أو الممكن. ما يعني أن المواقف الدالّة، والوقائع الدامغة، والحالات "الجنونية" التي تكشف عن هوس المعاداة (أو الفرقة والتفريق)، كثيرة ومنها ما يؤرّخ به عادة (حرب الرّمال 1963) للعداوة التاريخية التي ما زالت تفعل في الوجدان بالآثار نفسها التي كانت لها في سابق العهد والأوان... كأنها من (الأقدار العمياء) المنصوبة في طريق التطور لمنع التفاهم، وإعدام منطق التفكير المشترك.
أصبح مضحكاً مبكياً القائم بين المغرب والجزائر منذ عقود من الزمن الثقيل
ولن أثير هنا إلا واقعة واحدة أثارت في نفسي، بعد الاهتمام، نوعاً من المرارة التي يمكن أن يستشعرها المواطن المغاربي حيال العبث الذي يتلاعب بالسياسات الظرفية المُنتهجة في بعض البلدان، وهو الأمر الذي يعني، في الاستنتاج العام، غياب أدنى شروط الوعي المرتبط بالمصالح الحقيقية التي يمكن أن تحرّض البلدان وَتُقَوي الاستراتيجيات المُعَدَّة للخروج من التخلف والاستبداد والتبعية. مفاد تلك الواقعة، بالاستناد إلى حدثٍ ظرفي، قبول الدولة الموريتانية بمهمّة شاقّة، ومستحيلة تقريباً فيما يبدو، وهي شكلية بالأساس، تتمثّل في توليها قيادة الاتحاد الأفريقي في مستهل فبراير/ شباط الجاري، بعد فترة من الجمود كادت أن تعصف بالمنظمّة الافريقية عصفاً، بسبب الصراع المزمن، وقد أصبح مضحكاً مبكياً القائم بين المغرب والجزائر منذ عقود من الزمن الثقيل. وظنّي أنه ما كان بمقدور الدولة الموريتانية أن تغامر بهذه القيادة، على صعيد القارّة الأفريقية بأتمّها، إلا بناء على وعودٍ وتحذيراتٍ وصعوبات وضغوط ومناورات، جميعها وأكثر، ولا ترتيب يحدّدها، تفاعلت، حسب مراحل معيّنة، فوقعت، أو تزامنت مع/ على اختيارٍ يتجاوب مع الأوضاع السياسية في موريتانيا التي يستعد رئيس دولتها، في الوقت الحالي، لخوض غمار ولاية جديدة في يونيو/ حزيران المقبل، سوف تضمن له نوعاً من الاستمرارية المطلوبة في السلطة والتحكّم.
من السهل أن يدرك العارف بطبيعة الأوضاع القائمة في مختلف البلدان المغاربية، وكذا كمائن التناحر القائم بين المغرب والجزائر، أن الأمر يتعلّق أساسا بقضية الصحراء. ولو قدّرنا في هذا أن لكل دولة خططها في الدفاع عن قضاياها الوطنية، وأن هذا الدفاع قد يأخُذ صيغاً وأشكالاً مختلفة حسب الاستراتيجية المعتمدة في المواجهة بمختلف الوسائط الضامنة لذلك (مادّية كانت أم معنوية، فضلا عن الإعلامية والتواصلية)، فإن الجزائر، بسبب ذلك فقط، لا تبدو معنيةً على أي نحو بقضية تخصّ المغرب في مواجهة حركة مسلحة، لا تنطلق من ترابه وتعمل من أجل الانفصال عنه بقوة السلاح وعنفه، ثم أوجدت لها "جمهورية" لا ينطبق عليها أيٌّ من معايير القانون الدولي التي تبرّر الوجود والاعتراف كما هو التعريف في اجتهادات القانون الدولي.
السياسات المغاربية، على تناقضاتها، "شُيّدت"، على ضوء السياسات الظرفية التي حدّدها الوعي السياسي أو الاختيار الأيديولوجي، على التناقض
لا أثير هذه القضية، من هذه الزاوية الخاصّة تماما، إلا للقول إن موقف نظام الجزائر، وقد تبلور في مدى أربعين سنة أو يزيد من الحبك، أوجد، بحكم دفاع نظام المغرب عن الأمن والسيادة، وضعيْن مختلفيْن بينهما أسبابٌ متداخلة: تمثل، أولا، على الصعيد المغاربي والأفريقي بشكل خاص (وكان كذلك على الصعيد الدولي في مرحلة) في انقسام الدول تجاه الصراع التناحري المعلن، بصرف النظر عن الدوافع والاختيارات الأيديولوجية والسياسية وأساليب الهيمنة وتوفير الدعم، قبولاً ودعماً، معارضة ورفضاً. وأوجد قبله، ثانياً، حالة من العداء بين البلدين المتجاورين، أيقظت جميع الأوهام الوطنية، وغير الوطنية، التي أخفاها تاريخ النضال المشترك في سبيل الاستقلال، بحيث أصبحنا أمام حالةٍ استثنائيةٍ في الصراعات الدولية، بشأن السيادة والأمن، بلغت من الشمول حدّاً لن توقف مداه إلا الحرب (مظهرها الآني التسابق نحو التسلح بأوفر الأسلحة الفتّاكة لاستنزاف الخصم وتخويفه).
وما يجب الاحتفاظ به في الذاكرة والخطاب، وهو مما يُتعب العقل الإنساني، ويبدو صعبا على المحلل أو على الناقد للأوضاع القائمة، أن حجم الخسائر المعنوية، ناهيك عن المادّية المرتبطة بالمجالات الاقتصادية والتجارية وسواها، التي تتكبّدها شعوب المنطقة المغاربية في ظل الصراعات العنقودية التي تخترق، بعنفٍ ومرارة، أوضاعها المختلفة منذ سنواتٍ عجاف، لا تُقدّر، كما يقال، بثمن. وما ذلك إلا لأنها في استنتاجاتي "أزلية" لم يناقشها المعنيون بها والذين يتحملون تبعاتها، وأنها، فوق هذا وذاك، "ترسّخت" في الحياة العامة، وفي الأفهام، حتى صارت "حقائق" تبدو لكثيرين، وخصوصا لأفراد الأجيال الجديدة، وكأنها "طبيعية" لا مناص لكل وَطَنِيّ غَيُور منها، لأنها تدخُل ضمن مفهوم السيادة الذي يؤجّج حميّتها الوطنية الخاصة.