تساقط الدومينو الفرنسي
خلال الأشهر القليلة الماضية، يجد المتابع للعلاقات الدولية نفسه يستعيد أسماء عواصم مثل باماكو، واغادوغو، كوناكري، نيامي، ليبرفيل، حيث يستمرّ تساقط أحجار الدومينو الفرنسي في القارّة الأفريقية. وإن كان لكل حجر يسقط في أفريقيا الفرنكوفونية خصوصية محلية، فإن القاسم المشترك لهذه السلسلة من الانقلابات العسكرية الجارية تباعًا له اسم واحد: أزمة السلطات التي أسّستها وأسّست لها فرنسا في مرحلتي الاستقلالات وما بعدها. ومن شبه المؤكد أن هذا التساقط لن يتوقّف عند النيجر، فهناك الكاميرون والكونغو برازافيل وتوغو. تساقطٌ يمكن اعتباره جزءا جديدا من مسار طويل لعملية إزالة الاستعمار، والتي انطلقت في سنة 1960. ومن ضرورات المرحلة الجديدة أيضًا التوقف عن اللجوء إلى استعمال التعبير الموروث من الحقبة الاستعمارية الذي يتحدّث عن "أفريقيا" في المطلق. ومن المستحسن، والحال كهذه، اعتماد آلية جديدة في التفكير السياسي تُشير إلى "دولٍ أفريقيةٍ". وفي المقابل، يجب القضاء على تفكيرٍ تبسيطيٍ عقيمٍ آخر، والذي يُحيل الى الاستعمار الفرنسي كل مآسي القارّة الأفريقية وآلامها، وبالتالي، هو يسعى من خلال ذلك إلى تبرئة الحكّام الحاليين لهذه البلدان من أية مسؤولية.
وهنا يطرح سؤالٌ نفسه، حيث تبدّت معالمه من متابعة التظاهرات الشعبية التي خرجت في الدول المعنية والمؤيدة للانقلابات أخيرا، بشأن محاولة تفسير التفضيل الظاهر للشباب في هذه الدول الأفريقية لانقلابيين عسكريين على قادة سياسيين جرى انتخابهم، وكيف لهؤلاء الشباب أن يعتقدوا أن الانقلاب العسكري هو الطريق الأفضل للتخلّص من نظام سياسي مكروه ومرتبط في أذهانهم بالدولة الفرنسية. وهناك من يعتقد أن الجزء الأهم من الإجابة على هذا التساؤل يكمن في أن فرنسا سبق أن غادرت مستعمراتها السابقة في القارّة الأفريقية، لكي تبقى موجودة ومسيطرة بطريقة فاعلة أكثر من خلال ترؤس أتباعها في كل بلد منها.
تفكير تبسيطي عقيم يُحيل الى الاستعمار الفرنسي كل مآسي القارّة الأفريقية وآلامها
بعد أن استمر الوجود العسكري الفرنسي في عدة بلدانٍ مستعمرة سابقًا من خلال اتفاقيات ثنائية بشأن التعاون العسكري والحماية المشتركة، وقع التدخل الغربي في ليبيا سنة 2011، والذي أدّى ليس فقط إلى إسقاط حكم معمّر القذافي بل وأيضًا إلى انتشار عظيم لمحتويات مستودعات أسلحة نظامه الضخمة في مختلف أرجاء أفريقيا المجاورة. وأدّى هذا الوضع إلى تفاقم الصراعات المحلية في كل منها، وهي صراعات اعتمدت بادئ ذي بدء على تعقيدات العلاقات الحدودية المصطنعة والعلاقات القبلية المتشابكة، وفي إطار إضافي ليس بالأساسي، ولكنه أيضًا ليس بالهامشي، ثمّة تطرفٌ ديني استغل فقر المجتمعات وفساد الأنظمة وشحّ الموارد. وبالتالي، عادت قواتٌ فرنسية بغطاء أوروبي إلى دول الساحل الأفريقي لمقارعة التنظيمات المتطرّفة، وفي مقدمها الدولة الإسلامية وبوكو حرام. وفي هذا الإطار، تدخّلت موسكو للتلاعب بالرأي العام الأفريقي المهيأ لمقارعة فرنسا، حيث استطاعت أجهزتها الإعلامية، المقرّبة من مرتزقة "فاغنر"، دفع سؤال عملي بسيط للهيمنة من خلال استغراب عدم استطاعة القوات الفرنسية القوية، والتي تستخدم أحدث أنواع الأسلحة والمعدات التي تتمتّع بتقنيات عالية، مواجهة المتطرفين المسلحين ببنادق آلية ويمتطون الدراجات والقضاء عليهم. وسرعان ما انتشر جوابٌ "روسي ـ مؤامراتي" لهذا التساؤل، تُحدّد من خلاله مسؤولية فرنسا في دعم المجموعات الإرهابية وتسليحها، لكي تستفيد من الفوضى الأمنية التي تنشرها، وتسمح بالتالي لفرنسا بالسيطرة على مقدّرات البلاد الأفريقية. أي أن فرنسا الاستعمارية الجديدة تحافظ على النزاعات لتسرق براحة أكبر الثروات الأفريقية.
فرنسا التي تُعتبر المؤتمنة على القيم الديمقراطية والمساهم الرئيسي في نشرها، تجد نفسها اليوم في موقفٍ دفاعيٍ لدى سؤالها عن وقوفها مع سلطاتٍ أفريقية فاسدة
إن صحّ القول إنه كانت لفرنسا مصالح اقتصادية كبرى في مجمل الدول الأفريقية الفرنكوفونية، من العلمي التوقف عند تراجع كبير حصل في اعتماد فرنسا على الثروات الطبيعية والأسواق في هذه الدول. ففي ما يخصّ المواد الأولية، مالت فرنسا إلى تنويع مصادرها. وعلى سبيل المثال، اليورانيوم النيجيري الذي كان مصدرًا أساسيًا للفرنسيين، انخفضت نسبته في الواردات الفرنسية من 60% إلى لا أكثر من 16%. وفي أيامنا الراهنة، هناك قوة تستفيد بأوسع كمية من الموارد الطبيعية الأفريقية وهي الصين. إضافةً إلى توسّع المصالح الهندية والتركية والإسرائيلية في القارّة الأفريقية. كما يُشار إلى بعض الاختلاف في وجهات النظر المتعلقة بتطوّر السياسات في أفريقيا بين حليفين غربيين، فرنسا والولايات المتحدة. إضافة إلى هذه العوامل كلها، لم يشعر المواطنون في الدول التي تدخّلت فيها فرنسا عسكريًا لمواجهة الإرهاب بتأثير إيجابي على أمنهم وأمانهم. كما وجود سياسيين فاسدين أو فاشلين تؤيدهم فرنسا، حقيقةً أو وهمًا، دفع نظريات "الاستعمار الجديد أو المتجدّد" إلى الانتشار بكثافة في أوساط الأجيال الجديدة.
فرنسا التي تُعتبر المؤتمنة على القيم الديمقراطية والمساهم الرئيسي في نشرها، تجد نفسها اليوم في موقفٍ دفاعيٍ لدى سؤالها عن وقوفها مع سلطاتٍ أفريقية فاسدة، ولو كانت منتخبة، ودعمها توريث بعض الزعماء المستبدين المقرّبين منها والفاسدين بامتياز. الاقتراب من الملفّ الأفريقي بتواضع أكبر وبتفهّم أعمق لتعقيدات المشهد المجتمعي والقبائلي والسياسي سيُمكّن باريس من البقاء سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا في أفريقيا.