تزوير الحقائق بالسفاسف

26 ابريل 2021
+ الخط -

أن ينحدر خصمك، السياسي والفكري، إلى أدنى درجات الابتذال، فهذا مدعاة لتعزيز الثقة بقضيتك، وأحد مؤشرات نصرك الأخلاقي عليه. وإذا تجاوز عتبة الابتذال بدرجات، سيفقدك هذا العلو، بل ربما يجعلك تحزن، لأنك خاصمت يوماً طرفاً على هذا القدر من الانحطاط... هي إذاً من أساليب العقاب في عالمنا العربي، الفقير جداً في أنماط العقاب التي تكاد تنحصر، ربما، في الإلغاء الجسدي، بما يعنيه من قتل وتغييب. ولا يحتاج الأمر لشروح كثيرة، ما دمت، أيّها القارئ، قد عاصرت ثورات الربيع العربي، ورأيت، على الهواء مباشرة في أحايين كثيرة، كيف تتم تطبيقات هذا النمط على اللحم الحيّ.
لا تملك السلطات، في عالمنا العربي، طاقة كبيرة على تحمّل رؤية الخصم حياً، يناقش ويطالب أو يعترض. على الفور تشتغل صفارات الإنذار والأضواء الحمراء من تلقاء نفسها، وتنطلق محرّكات آلة القتل بشكل أوتوماتيكي، تبطش يمنة ويسرى. وفي تلك اللحظة، يصاب جهاز السلطة بالصمم والعمى، فلا يعدو الرأي العام العالمي مسألة لها قيمة، وتصبح منظمات مثل هيومن رايتس ووتش، طي النسيان، إذ قبل إنجاز المهمة وحراثة الأرض بما عليها، فإن أزعر الحارة على استعداد لقتل أخيه إذا اعترض على أفعاله. والشعار في هذه الحالة، أن نخرج من الأزمة، ثم نجد حلولاً لكلّ هذه القضايا.

تكرّرت في السنوات الأخيرة ظاهرة إقحام الدراما التلفزيونية في قضايا، أقل ما يمكن أن يقال عنها إنّها انقسامية، ولا تنطوي على نصر لأيّ من أطرافها

وفق هذا النمط من إدارة الأزمات، نجحت غالبية السلطات العربية في البقاء في الحكم، وما إن تنتهي هذه الأزمات، يكون النظام قد جرّف كامل النخبة السياسية التي تصبح، في الغالب، في القبور أو في السجون والمهاجر، عندها يطرح الحاكم، المتربع على عرش الجماجم، على الخارج المعترض السؤال: وأين هم بدلائي الذين سيضبطون هذه الديار، أم تريدونها فوضى ترتدّ على شعوبكم وأمنكم!؟
حسناً، ما دامت السلطات العربية تبرز في نهاية مسلسلات الدم التي تجريها على الأرض العربية هذه الوثائق، وتضعها في عيون المنظمات والدول، ما حاجتها إذاً لاستخدام الدراما التلفزيونية والتحليلات الساذجة والدعايات التافهة، ألا تدّعي تلك السلطات أنّها انتصرت؟ أم هو تطبيق للعبارة المغلوطة "المنتصر يكتب التاريخ"؟
تكرّرت في السنوات الأخيرة ظاهرة إقحام الدراما التلفزيونية في قضايا، أقل ما يمكن أن يقال عنها إنّها انقسامية، وجارية ولم تنتهِ بعد، ولا تنطوي على نصر لأيّ من أطرافها، خصوصاً نتيجة الكوارث التي خلّفتها. وبالتالي، لم تنتج هذه الأوضاع منتصرين، إلّا إذا اعتبرنا الكوارث المتجسّدة بتعبيراتها الرهيبة والكثيرة انتصارات، وعلى من هذه الانتصارات؟ كما أنّ الديناميات التي تتشكّل في واقعنا العربي نتيجة مرحلة العنف السابقة لم تستقر بعد على شكل معين، ولا توجد ضمانة بأنّها ستكون لصالح هذا الطرف أو ذاك.

الأنظمة العربية تستطيع قتل أعداد كبيرة من شعوبها، وإلغاء كتل بشرية، وأيضاً تخويف من بقي على قيد الحياة بمن قتلتهم

بعيداً عن الدلالات والإشارات التي يبتغيها مستخدمو هذه السياسات: ما مدى جدية من يقف وراء الأعمال الدرامية المصمّمة على مزاج الأجهزة الأمنية، في جعلها وثائق تلغي الوثائق الحية، من شهود وصور وتسجيلات وثّقت لمذابح وارتكابات رآها جيلٌ لم يزل أغلبه على قيد الحياة، وما زالت رائحة الدماء والغاز في أنفه وصرخات القتلى تطنّ في أذنيه، ولم تنتهِ حرقة القلب على فقد الأحبة؟ أجزم أنّ تفضيلات أغلبنا، بوصفنا بشراً نمتلك عقولاً عادية، ستذهب صوب تصنيف هذه السلوكيات أنّها من أنماط الانفصال عن الواقع، لأنّ لا أحد يملك الجرأة على القيام بذلك سوى من هو مبتلى بواحدةٍ من درجات الجنون، لأنّ الأنظمة العربية تستطيع قتل أعداد كبيرة من شعوبها، وإلغاء كتل بشرية كاملة، وهذا ما ثبت بالتجربة، وتستطيع أيضاً تخويف من بقي على قيد الحياة بمن قتلتهم، لكن ما لا تستطيع فعله، إقناع من شهد بأم عينيه ما ارتكبته تلك الأنظمة التي لم تكلف نفسها لحظة هيجانها، حتى إخراج عمليات قتلها بأسلوب أكثر ذكاءً من الشكل الذي ظهرت به.
ربما تفسير ذلك اجتماع حاكم منحرف مع مستشار حاقد، أو صانع ومنتج للمشهد الدرامي متطرّف أو متملق "مزبلح" بلهجة بلاد الشام، ليس للمصداقية أو احترام الخصومة أيّ اعتبارات لديهم، ويمنحهم امتلاكهم هذه المزية القدرة على بلوغ قاع الانحطاط، لقناعتهم أنّ الخصم لن يستطيع الوصول إلى هذا المستوى.
إذاً، ما دمت منتصراً في المعركة، وقادراً على إسكات العالم الخارجي، وتستطيع إخضاع معارضيك الداخليين، ما حاجتك لهذا الإسفاف؟ هل هي كتابة رواية جديدة للأحداث؟ لمن؟ وما دمت مقتنعاً أنّه لا أحد ممن وصفوك بالقاتل، لا في الداخل ولا في الخارج، سيغير رأيه نتيجة صناعة مسلسل تلفزيوني منحاز، من عنوانه وكاتبه ومخرجه، فلماذا هذا الجهد الزائد عن الحاجة؟ الأرجح أنّ وراء هذا الأسلوب هدفين: صناعة الرضى لدى من أيّد سياسات هذه الأنظمة وتخفيف درجة إحساسهم بالعار، وعقاب الخصوم بإشعارهم بتأنيب الضمير والدونية، لأنّهم فكروا يوماً بجعل هؤلاء أنداداً وخصوماً على مبدأ: أحكمكم وأقتلكم، أو أجعلكم تحتقرون أنفسكم من فرط حقارتي!

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".