تخلّ عن جنسيتك تكن حرّاً
تمثّل كلّ حالة إفراج عن معتقل من ضحايا سجون العشرية السوداء في مصر، على ضآلة عددهم مقارنة بقوائم تتجاوز 60 ألف معتقل، باب أمل وإرهاصات بشرى، وتوقعات خجولة من المراقبين والحقوقيين، وتساؤلات متكرّرة: هل هي انفراجة حقيقية أم مناورة واختراق محدود لهذا الملف؟ ناهيك عن شعور عائلاتهم، الذي لا يمكن وصفه.
وشهد عام 2021 المنصرم الإفراج عن الصحافي خالد داود، وأستاذ العلوم السياسية حازم حسني، والصحافية سلافة مجدي وزوجها الصحافي حسام الصياد، وإسراء عبد الفتاح، وماهينور المصري وغيرهم. وأخيراً رامي شعث الذي أعلنت زوجته سيلين لوبران وعائلته "إطلاق سراحه بعد أكثر من 900 يوم من الاعتقال التعسفي والفصل القسري". ومع سعادتهم لاستجابة السلطات لندائهم من أجل حريته، عبروا عن استيائهم من إجباره على التنازل عن جنسيته المصرية شرطاً للإفراج عنه. واعتبروا في بيان أصدروه أنّه كان يجب أن يكون ذلك غير مشروط بعد سنتين ونصف السنة من الحبس، على أساس أنّه لا يجب أن يختار الإنسان بين حريته وبين جنسيته، وأنّ رامي ولد ونشأ مصرياً، وكانت مصر وستبقى وطنه، ولن يغير التنازل عن جنسيته ذلك أبداً.
ولم يكن حصول رامي شعث على حرّيته مقابل التخلي عن جنسيته أمراً جديداً، فمعظم من أُفرج عنهم من أصحاب الجنسيتين، سُلبت منهم الجنسية المصرية مجبرين لكي ينالوا حريتهم، وكأنّها أصبحت معادلة التحرّر الصفرية، فقد تخلّى محمد صلاح سلطان عن جنسيته، وكذلك صحافي قناة الجزيرة السابق، محمد فهمي، الذي رُحّل إلى كندا في 2015. وأيضاً طالب الطب محمد عماشة، الذي أفرج عنه فى يوليو/ تموز 2020، بعد سجنه أكثر من 500 يوم، ومنهم أيضاً ريم الدسوقي التي تعمل معلمة في ولاية بنسلفانيا الأميركية، ونجلاء مختار يونس.
وبينما يظل وضع علا القرضاوي غامضاً، توفي مصطفى قاسم في زنزانته وهو يحلم بالفكاك من جنسيته المصرية وسجنه، لكنّ جنسيته الأميركية لم تكن كافية، في ما يبدو، لإنقاذ حياته. وكانت وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية، قد نشرت يوم 31 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) خبراً مقتضباً بإخلاء سبيل علا القرضاوي، التي تحمل الجنسية الأميركية، على ذمة التحقيقات بقرار من النيابة العامة، لكنّ موقع "مدى مصر" نقل عن ثلاثة مصادر حكومية أنّها وصلت إلى بيتها في 12 ديسمبر/ كانون الأول، أي قبل 19 يوماً من الإعلان! وقد أصاب خروج علا القرضاوي إلى داخل مصر، ومنعها من السفر، مثل مصريين كثيرين أفرج عنهم، زوجة رامي شعث بالفزع من أن يخرج زوجها إلى سجن كبير، ويمُنع من السفر، بحسب تعبيرها.
وكالعادة، حمل النائب ورئيس حزب الإصلاح والتنمية، ورئيس مجموعة الحوار الدولي، محمد أنور السادات، البشرى بالإفراج عن رامي شعث، قبل خروجه فعلياً بعدة أيام! وشكر النيابة العامة ووزارتي الخارجية والداخلية وأجهزتها، والسفارة الفرنسية بالقاهرة، والسلطة الفلسطينية، ورئيسة مجموعة الصداقة الفرنسية المصرية! والسؤال هنا، ما شأن هؤلاء بأمرٍ من المفترض أن يكون قضائياً بحتاً؟ وما مدى مساهمة كلّ منهم في الإفراج عن شعث؟
مساومات للإفراج عن معتقلين مقابل تجاهل تسريباتٍ تتعلق بفضائح جنسية وسياسية ومالية!
وكان السادات قد أعاد التأكيد من قبل مراتٍ على وجود نظام قوي مستمر، يجب التعامل مع أجهزته، لمساعدة السجناء ومن خلفهم أسرهم التي تعاني، باستثناء الإسلاميين، طبعاً، الذين يمثلون السواد الأعظم في السجون. لكنّ سحب السادات التهنئة، هذه المرّة، على أطراف خارجية، يكاد يجزم أنّ الإفراجات باتت تتجاوز الأجهزة الأمنية والسيادية. كما حدث في الإفراج عن آية حجازي التي أطلق سراحها في إبريل/ نيسان 2017 بتعليمات من الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بعد احتجاز دام ثلاث سنوات، ورافقتها على الفور طائرة عسكرية أميركية إلى الولايات المتحدة بصحبة دينا باول نائبة مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض للشؤون الاستراتيجية، واستقبلها دونالد ترامب، في قاعدة أندروز الجوية على مشارف واشنطن. وعلى ذمة بعضهم، فإنّ باتريك جورج خرج فجأة من محبسه في 8 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) بعد تفاهمات إيطالية مصرية.
وبخلاف الضغوط الدولية عن حالاتٍ بعينها، والتفاهمات الخارجية، نقطة أخرى تقحم نفسها في هذا السياق، وهي قول اليوتيوبر عبد الله الشريف (أفرج عن والده بعد ساعات من اعتقاله، رداً على عرض تقدّم به بالتوقف عن نشر تسريبات تتعلق بمستشاري الرئيس) إنّه يجري اتصالات ومقايضات بأجهزة أمنية، وجاء على مساومات للإفراج عن معتقلين مقابل تجاهل تسريباتٍ تتعلق بفضائح جنسية وسياسية ومالية! ويمثل هذا الكلام، وإنْ لم يتم التحقق من مدى مصداقيته، فضيحة من العيار الثقيل، فمنذ متى تساوم الدول أفراداً، وتضع حرية مواطنيها المعتقلين فى كفة ميزان مقابل التغطية على الفضائح؟ تحدث هذه السياقات فى عالم الجريمة وأشباه الدويلات الفوضوية، لا الدول صاحبة التاريخ والوزن الإقليمي، ولديها أدوات ووسائل.
يبقى السؤال: مَن لعشرات الآلاف من المعتقلين فى السجون من ذوي الجنسية المصرية، وكيف سيخرجون، وقد تجاوزتهم معادلة التخلي عن الجنسية مقابل الحرية، وليس لدى معظمهم مانع في أن يكونوا طرفاً في المعادلة، حال أتيحت فرصة لذلك؟ ربما نحاول أن نخدع أنفسنا بأمنيات كاذبة، ونحن نظهر مزيداً من الفرح بخروج معتقل أو اثنين أو ثلاثة، بينما يظل عشرات الآلاف رهن الاعتقال السياسي والمكايدات، كأسرى حرب أو كتل بشرية للضغط على من هم خارج السجون، لاستمرار بقاء واقع سياسي استبدادي بشكل دائم.
ليس حصول رامي شعث على حرّيته مقابل التخلي عن جنسيته أمراً جديداً، فمعظم من أُفرج عنهم من أصحاب الجنسيتين سُلبت منهم المصرية
لم ينكر أنور السادات، شديد البراغماتية، أنّ المقايضة مع أجهزة الداخلية وغيرها شديدة الصعوبة، وأنّها ربما تراجعت مراراً عن الإفراج الفعلي عن أعدادٍ لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، أو أجلت ذلك لأشهر، بعد التوصل إلى قرارات. لكنّه قال أيضاً إنّ الإفراجات الأخيرة عن بعض سجناء الرأي تأتي ضمن إطار ما وصفه بالتوجه العام الجديد للدولة. وأضاف: "سيكون هناك انفتاح كبير، وإصلاحات خلال الفترة المقبلة في ملف الحقوق السياسية والحريات، إلّا أنّ هذا سيحدث بالتدرّج وبشكل مرحلي" على حد قوله، وهذا لم يحدُث، فزياد العليمي، وعلاء عبد الفتاح، ومحمد الباقر، وغيرهم، دينوا في محاكم طوارئ بعقوبات مشدّدة، ويكاد التصديق على الأحكام يستبق صدورها!
انسداد الأفق، جعل منظمة "كوميتي فور جستس" تستغل اجتياح كورونا السجون، لتوصي السلطات المصرية بوضع سياسة صحّية داخل السجون وتنفيذها، يتم فيها تحديد أعداد ذوي الأمراض المزمنة وكبار السن وتطبيق آليات الإفراج المؤقت والمبكر والعفو بحقهم، وكذلك التوسّع في قرارات إخلاء السبيل بحق المحتجزين قيد الحبس الاحتياطي، واستبدال هذا الحبس بتدابير احترازية بديلة.
تمرّ الأيام وتتلاحق السنوات، وقريباً يكون الحديث عن سجن عقد كامل، لوطن وشعب كبير، بكيفية غير مسبوقة، فيما تتضاءل الإفراجات والانفراجات والحلحلة الحقوقية، ويفقد الأسرى وأسرهم الأمل.