تحولات شرق أوسطية جديدة

16 ديسمبر 2022
+ الخط -

بدأت تتشكّل بوضوح، وعلى نحو سريع، ملامح تحولات استراتيجية في الشرق الأوسط، تحكمها مصالح جديدة، وتفاهمات غير التي استقر عليها الوضع في العقود السابقة. ومن أهم سمات التطور الذي يحصل، تراجع حضور الولايات المتحدة وأوروبا، وتزايد النفوذين، الصيني والروسي. وتشكّل زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الرياض في الأسبوع الماضي، وانعقاد ثلاث قمم على التوالي، سعودية صينية، خليجية صينية، وعربية صينية، تطوّراً مهماً وحدثاً غير مسبوق في منطقة لا تزال أميركا تحظى معها بعلاقات تاريخية متينة متعدّدة الأبعاد، سياسية، اقتصادية، عسكرية، وأمنية. ولهذا السبب، أبدت واشنطن رد فعل غاضب على لسان منسّق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، الذي اعتبر التطورات "لا تؤدي إلى الحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد التي تحاول الولايات المتحدة، وشبكتنا الواسعة من الحلفاء والشركاء، الحفاظ عليها". ويتضح من ردود الفعل الأميركية على التوجه السعودي نحو الصين، أن أبواب الخلافات باتت مفتوحة مع أميركا وأوروبا، خصوصاً أنهما دخلتا في حرب اقتصادية مع بكين، وبدأتا منذ جائحة كورونا بمراجعة العلاقات الاقتصادية معها، والتراجع عن الاندفاعة الكبيرة للاستثمار، ونقل الشركات الكبرى والمصانع والمخابر، التي بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي، وتوقف توظيف رؤوس أموال أميركية وأوروبية في المشروعات الصينية العملاقة، وصارت الحركة تسير في الاتجاه المعاكس. كذلك بدأت عمليات عرقلة علنية مدروسة للاستثمارات الصينية في أميركا وأوروبا، وتتخذ بعض دول أوروبا مواقف رافضة لتدفق رؤوس أموال صينية إلى أسواقها، كما حصل في ألمانيا التي منعت شراء الصين ثلاث شركات ألمانية، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تحت مبرّر مخاوف بشأن الأمن القومي وتدفق أسرار التكنولوجيا الحساسة إلى بكين.

ويبدو أن نتائج سياسة الانكفاء الأميركي عن الخليج العربي والشرق الأوسط، التي بدأت في الولاية الثانية للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما (2009-2017)، قد بدأت تظهر بقوة من خلال توجه دول في المنطقة، للبحث عن شراكات جديدة في ظل التطورات الإقليمية المتسارعة والحرب الروسية على أوكرانيا، وحاجة هذه الدول إلى التكنولوجيا الحديثة، المدنية والعسكرية، وتطوير بناها التحتية الاستراتيجية من موانئ ومطارات وشبكات اتصالات. كذلك تجدر الملاحظة أن هذا التحول يأتي بعد تخلي واشنطن عن جزء من التزاماتها الأمنية تجاه السعودية خلال حرب اليمن، وعدم تقديم أسلحة حديثة لمواجهة الهجمات على المطارات والمنشآت الاقتصادية، مثل شركة آرامكو، بالصواريخ البالستية والطائرات المسيرة في الأعوام الثلاثة الأخيرة.

وتعلن السعودية أن هدف مساعيها بالانفتاح على الصين تنويع العلاقات الاقتصادية والتجارية وفق قوانين المنافسة، ولكن الأمر لن يلبث أن يتجاوز ذلك إلى نشوء تفاهمات في أكثر من جانب، ولا يمكن أن يكون الاقتصاد محايداً في عالم الحروب التجارية شديدة الاستقطاب، ومن غير المستبعد بروز محاور جديدة، كما حصل داخل "أوبك بلس" قبل شهرين، لجهة رفض السعودية طلب واشنطن زيادة إنتاج النفط، بل اتفقت مع موسكو على العكس، وقرّرت خفض الإنتاج. وحصل الأمر نفسه، بالنسبة إلى تركيا، الدولة العضو في حلف الأطلسي، والشريكة مع الاتحاد الأوروبي في سلسلة طويلة من اتفاقات التعاون. ومع ذلك، رفضت أنقرة التقيد بالعقوبات الغربية والاستجابة للحلف بخصوص حرب روسيا على أوكرانيا، بل حاولت الوقوف في الوسط، ولكنها من الناحية الفعلية أقرب إلى روسيا التي صارت تربطها بها علاقات متينة، وتفاهمات سياسية وعسكرية ثنائية في سورية على وجه الخصوص، حيث تتشارك موسكو وأنقرة وطهران صيغة أستانا التي هندست الوضع السوري بمراعاة مصالح الدول الثلاث واعتباراتها، وقرّبت بعضها من بعض.

شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد
بشير البكر
شاعر وكاتب سوري.
بشير البكر