تجريم المجلس العسكري السوداني حلاً
تدفع حال الجمود وانسداد الأفق السياسي في السودان إلى التفكير في حلولٍ للخروج من الورطة التي وضع المجلس العسكري الانتقالي البلاد فيها، بعد انقلابه على مسار المرحلة الانتقالية وشركائه المدنيين، ومنعهم من قيادة ما تبقى من مرحلة، حسب ما نصّت عليه الوثيقة الدستورية المتفق عليها، والموقعة من الطرفين. وإذ تتوفر إمكانية لتجريم رمزيْ المجلس العسكري والانقلاب، عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، بسبب الانتهاكات التي شابت سجليهما بدءاً من حرب دارفور، مروراً بمجزرة فض الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم في 2019، وصولاً إلى مسؤوليتهما عن القمع الدموي الذي واجها فيه المتظاهرين المحتجّين على انقلابهما أخيرا، فإن هذا التجريم يُعدُّ فرصةً للمدنيين لوضع حد لاستئثار الرجلين، ومن خلفهما المؤسسة العسكرية، بحاضر البلاد ومستقبلها، خصوصاً وقد باتت الأزمات تفرض إيجاد حلولٍ، من أي نوعٍ كان، قبل الانهيار الاقتصادي الوشيك.
قطعَ الانقلاب الذي نفذه قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كل الآمال في خروج السودان الفعلي من حال العزلة التي وضعها فيها نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، وكذلك الآمال في التعافي الاقتصادي المأمول. وكان هذا التعافي في طور البدء مع التوجه إلى حل مشكلات البلاد الأمنية والسياسية التي كانت كفيلةً بإرساء الاستقرار الضروري لتنفيذ الإصلاحات ولجذب الاستثمارات، خصوصاً في البنية التحتية، مقدمةً لحل المشكلة الاقتصادية، والتي كانت موضع اهتمام خاص مع اتجاه دول كثيرة، إضافة إلى الدائنين الرئيسيين لإسقاط ديون السودان. كما شرعت عدة دول، أهمها الاتحاد الأوروبي وأميركا، بتخصيص مساعدات عاجلة ومُنَح مالية، من أجل مساعدة البلاد على النهوض والتركيز على تنفيذ برامج إنمائية لتخفيف الأعباء عن المواطنين.
حريٌّ التفكير بوسائلٍ لتغيير الواقع وإعادة السودان إلى سكة الإصلاحات والانفتاح على المجتمع الدولي
ومع الانقلاب وحل السلطة التنفيذية ووقف العمل بأهم بنود الوثيقة الدستورية، تعطّلت الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد فتوقفت هذه العجلة، خصوصاً أن الدول التي تعهدت بتقديم المساعدات والمنح والقروض قد علَّقتْها بسبب الانقلاب، وهي التي كان مقرّراً إدراجها في ميزانية سنة 2022 المالية، فذهبت خطط التعافي أدراج الرياح. كما انعكس الأمر سلباً على الوضع الاقتصادي للبلاد، وعلى معيشة المواطنين التي ازدادت سوءاً مع ارتفاع الأسعار وزيادة تكاليف الإنتاج. وترافق ذلك مع رفع الدعم عن السلع الأساسية وعن الوقود والكهرباء، والتي أدّى ازدياد أسعارها بنسبة وصلت إلى 600% إلى تأثر الإنتاج الزراعي سلباً بعدما كانت البلاد تعوّل عليه من أجل التصدير وتوفير القطع الأجنبي.
إزاء هذا الواقع، ومع فشل المبادرات الأفريقية والدولية والوساطات في تقريب وجهات النظر بين الانقلابيين والقوى المعارضة التي لم تترك جماهيرها الساحات، منذ الانقلاب، رافعةً مطالب كثيرة، أهمها عودة السلطة إلى المدنيين، حريٌّ التفكير بوسائلٍ لتغيير هذا الواقع وإعادة السودان إلى سكة الإصلاحات والانفتاح على المجتمع الدولي، فمع تعنُّت العسكر وظهور نياتهم الحقيقية في الاستئثار بالسلطة، ولو كلف ذلك انهيار اقتصاد البلاد ودخولها في فوضى أمنية وعودة القلاقل إلى الأطراف، ربما يكون من أهم سبل المواجهة، وأهون الحلول، إعادة إثارة سجل رجلي الانقلاب، البرهان ودقلو، في مجال انتهاك حقوق الإنسان التي وصلت إلى حدود ارتكاب جرائم ضد الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي، إذا تعذّرت محاسبتهم محلياً.
جريمة فض اعتصام القيادة العامة كانت جريمة ضد الإنسانية، كونها وقعت بفعل هجوم واسع النطاق وممنهج على مجموعة من المدنيين العزّل
على الرغم من مضي سنوات على حرب دارفور، وما شهدته من انتهاكات بحق المدنيين من قتل وتعذيب واغتصاب وتهجير، علاوة على التطهير العرقي بحق السكّان الأصليين، ما زالت تُهَم ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية تلاحق عدداً من قادة نظام عمر البشير، بدءاً من البشير ذاته، وصولاً إلى قادة في قوات الدعم السريع، وقادة الجيش الذين يتبوأون قيادة المجلس العسكري الانتقالي الذي يسيطر على حكم البلاد حالياً. وبعد تسليم أحد المتهمين نفسه للمحكمة الجنائية الدولية، علي كوشيب، الذي كان من بين الضالعين بتلك الجرائم، ظهرت إمكانية لتجريم عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو، لأن كوشيب كان ينفذ الأوامر المعطاة له وفق التراتبية العسكرية، يوم كان للبرهان ودقلو علاقة مباشرة بمسرح العمليات والحوادث في دارفور. ويمكن لكوشيب أن يكون شاهداً عليهما، ما يوفر الإثباتات على تورّطهما إذا ما سارت محاكمة كوشيب المنتظرة، والمقرّرة في أبريل/ نيسان المقبل، ضمن المنحيين، التاريخي والقانوني، خصوصاً أنه وقبل أيامٍ صرَّح المدعي العام للمحكمة، كريم خان، إن "قضية دارفور لا يمكن أن تظلّ قصةً بلا نهاية بالنسبة للضحايا".
وإذا لم تكن الجرائم التي كان الرجلان مسؤولين عنها في دارفور كافية لتجريمهما أمام المحاكم الدولية، فإن الفظائع التي اقترفها الأمن السوداني وقوات الدعم السريع خلال مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، في 3 يونيو/ حزيران 2019، كفيلة بسوقهما إلى تلك المحاكم بسبب ضلوعهما المباشر بتلك الانتهاكات التي ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، فهذه الجريمة، وبالتوصيف، كانت جريمة ضد الإنسانية، كونها وقعت بفعل هجوم واسع النطاق وممنهج على مجموعة من المدنيين العزّل، وراح ضحيتها أكثر من مائة متظاهر، وشهدت أعمال قتل مباشر وسَحل واغتصاب واعتقال. وهي لذلك تندرج تحت البند أ من المادة السابعة من النظام الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، والمتعلقة بتوصيف الجرائم ضد الإنسانية.
يمارس المجلس العسكري في السودان أسلوب الأنظمة القمعية، في بيئةٍ عرفت عبر تاريخ نضالها الطويل كيف تكسر شوكة هذه الأنظمة
وبالوصول إلى الجرائم التي ارتكبها المجلس العسكري بعد انقلاب 25 أكتوبر الماضي، فقد كانت من العنف والتأثير بحيث دفعت 48 من رؤساء ووكلاء النيابة العامة في السودان إلى الدعوة إلى تشكيل لجنة تحقيق بشأن الانتهاكات التي وقعت خلال الاحتجاجات التي لم تتوقف منذ الانقلاب. ودفع هؤلاء، في 19 يناير/ كانون الثاني الماضي، بمذكرة إلى النائب العام، مطالبين بالتحقيق في ما سمّوه "مقتل المتظاهرين السلميين". وقد وصفت مذكّرتهم هذه الانتهاكات بأنها تعدّ "جرائم ضد الإنسانية". وكان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قد دان الانقلاب، وأجاز للمحكمة الجنائية الدولية التحقيق في الجرائم المنصوص عليها في ميثاق روما، خصوصاً في ظل عجز المحاكم المحلية، أو عدم رغبتها، بالاضطلاع بمهامها محاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية التي يعد قتل عشرات المتظاهرين على يد قوات الأمن التي يوجهها البرهان ودقلو أحدها.
يُظهر هذا الأمر للرجلين أن لا أمل لهما لقيادة البلاد خلال مرحلة تطوّر طبيعي، وأنهما سيسيران بها إلى العزلة، وربما القلاقل والانفجار الذي قد يسبّبه تدهور الأحوال المعيشية. ومع ذلك، وبدلاً من تقليل الانتهاكات، يراكم المجلس العسكري الجرائم التي اقترفها بحق المحتجين، ويعزّز قمعه الحريات المدنية وحرية التعبير والصحافة، وحرية النفاذ إلى الإنترنت، وهو بذلك يوحي أنه ماضٍ بعنفه إلى إخماد الاحتجاجات، مظهراً النية أن لا تراجع عن سياسة القمع مهما كانت النتائج، ومهما ترتَّب من تبعاتٍ عليه وعلى البلاد. ومع ذلك، معارضو الانقلاب واعون بأن أسلوب التخويف والقتل في الطرقات والاعتقال والإخفاء القسري لا تنفع في إخماد احتجاجاتهم، وقد بيّنوا أنه مع سقوط كل شهيد جديد تزداد أعداد المشاركين في الاحتجاجات، وهو ما لا يتعظ منه المجلس العسكري الذي يمارس أسلوب الأنظمة القمعية ذاته، في بيئةٍ عرفت عبر تاريخ نضالها الطويل كيف تكسر شوكة هذه الأنظمة.