تجربة ميلغرام .. يحدث في النفس البشرية
شاهدت مصادفة فيلما سينمائيا يحكي قصة حقيقية وتجربة ذاتية، بطريقة إخراج مبتكرة تدمج بين المعلومات العلمية والتوثيق في شكل سينمائي وإطار درامي ممتع. Experimenter، من إنتاج عام 2015، عن تجربة حقيقية أجراها عالم النفس الأميركي ستانلي ميلغرام، عام 1961، بعدما تأثر بمحاكمات نورنبيرغ، وشهادات من تمت محاكمتهم بأنهم فقط كانوا ينفذون الأوامر العسكرية، اعتقادا منهم أنهم يؤدون الواجب.
تم، في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ارتكاب جرائم وحشية وجرائم قتل واغتصاب عديدة، قُتل فيما ملايين من البشر. وفي الحرب العالمية الثانية تحديدا، ارتكب النازيون جرائم وحشية، أبرزها الهولوكوست، والتي تم جمع ملايين اليهود في أوروبا وتعذيبهم وتجويعهم وقتلهم في أفران الغاز بدم بارد، ودافع الجنود والضباط الذين فعلوا ذلك عن أنفسهم بأنهم فقط كانوا ينفذون التعليمات، ويؤدون الواجب.
ينشر ميلغرام إعلانا وهميا في الصحف، أنه يطلب متطوّعين لإجراء تجربة بحثية هامة لتطوير التعليم لصالح جامعة ييل، يتلقى المتطوع ما يعادل 20 دولارا في عصرنا الحالي. وفي الإعلان قيل إن التجربة لقياس ارتباط العقاب بالتعلم أو دور العقاب في التعليم، بينما الحقيقة أن الهدف غير المعلن هو قياس مدى استعداد الشخص العادي للإذعان لسلطةٍ ما تجبره على ارتكاب ما يخالف قناعاته، مثل تعذيب شخص آخر، ظنا منه أنه بذلك يفعل الواجب، أو قياس مدى إمكانية ارتكاب الإنسان أفعالا تخالف قناعاته، لمجرد تنفيذ التعليمات والأوامر.
كان في التجربة اثنان من المتطوعين، شخص يجري الاختبار ويوجه الأسئلة، وآخر يحاول الإجابة، وعند الإجابة الخطأ يضغط المتطوع الأول على زر لصعق المتطوع الثاني بشحنة كهرباء حوالي 45 فولت. ومع كل إجابة خاطئة تزداد الشحنة التي يتم إطلاقها، عقابا على الإجابة الخاطئة، حتى تصل إلى درجة مميتة تصل إلى 450 فولت، ولكن خدعة البروفيسور ميلغرام أنه لم تكن هناك كهرباء حقيقية، وأن المتطوع الثاني في الغرفة المجاورة، والذي كان يتعرّض لتلك الصدمات والعقوبات كان ممثلا يعمل ضمن الفريق البحثي مع البروفيسور ميلغرام. وكان المتطوع الثاني (الممثل)، يصرخ ويستغيث ويبكي طلبا للرحمة، مع تزايد شحنات الكهرباء التي يفترض أنه كان يتلقاها، وفي نهاية الاختبار كان يصمت في إيحاء أنه قد مات بعد كل تلك الصدمات.
من قاموا بتعذيب آخرين لا يعرفونهم لم يكونوا ساديين، ولكن معارضتهم إيذاء الآخر تلاشت مع الظرف المحيط وهيبة المعمل الجامعي
كان المشاركون المتطوعون، أو من تم إجراء الاختبار عليهم، في حقيقة الأمر ينتمون إلى أعمار مختلفة وخلفيات ثقافية وتعليمية مختلفة. وقبل اجراء الاختبار، تشكك كثيرون من علماء النفس في العالم في جدوى الاختبار، وتوقعوا أن تستجيب نسبة ضئيلة لا تتجاوز 10% لأوامر الصعق بالكهرباء، وتعذيب شخص آخر يستغيث، ولكن النتائج كانت صادمة، فقد وافق أكثر من 65% على إكمال الاختبار إلى النهاية، وضغط الزر الذي يفترض أنه يصعق شخصا آخر بريئا في غرفة مجاورة يستغيث ويبكي، بأن قلبه على وشك التوقف، وأنه يتألم بشدة، ويتوسّل لهم بأنه يريد الخروج والعودة إلى أطفاله ولا يريد الموت.
بعد تلك النتيجة، تم إجراء نسخ أخرى من ذلك الاختبار في عدة أماكن ومجتمعات مختلفة. وجاءت النتائج متقاربة. لدى أكثر من ثلثي المشاركين استعداد للقيام بأعمال قد تخالف الأخلاق والمنطق، ولديهم استعداد لتعذيب شخصٍ لا يعرفونه أو قتله، على الرغم من صراخه وتوسلاته لمجرد أن شخصا ذا سلطة ما أمر بذلك، أو ادّعى أن تلك الإجراءات ضرورية، من أجل نجاح التجربة وخدمة العلم، ومن أجل المصلحة العامة.
قال مليغرام إن النتائج مقلقة، ففي الطبيعة البشرية أيضا ميل إلى القسوة والمعاملة اللاإنسانية
لم يكن المشاركون في التجربة أشرارا، ولا قتلة. أغلبهم مسالمون، يبتعدون عن المشكلات في حياتهم الشخصية، ولكن هناك سلطة ما استطاعت إجبارهم على القيام بشيء مخالف لقناعاتهم باسم الواجب، سلطة ليست قوية، مجرّد باحث يدّعي القيام بتجربة أكاديمية، فكان السؤال أنه إذا تمكن مشرف جامعي مجهول من إجبار شخصٍ ما على تعذيب شخص آخر يبلغ من العمر 50 عاما، على الرغم من الصراخ والتوسلات، فما بالك لو كانت تلك السلطة دينية، مثل داعية أو شيخ أو كاهن، أو إن كانت تلك السلطة مسلحة أو جماعة أيديولوجية أو حتى سلطة الدولة.
من قاموا بتعذيب آخرين لا يعرفونهم لم يكونوا ساديين، ولكن معارضتهم إيذاء الآخر تلاشت مع الظرف المحيط وهيبة المعمل الجامعي، وإلحاح المسؤول عن الاختبار وإصراره على أن ينفذوا الأمر حتى تنجح التجربة. لم يحاول أحد التأكد من حالة من يصرخ في الغرفة الأخرى، كما لوحظ أن فكرة تقسيم عملية التعذيب كان لها دور كبير في إقناع المتطوّع بالاستمرار في القيام بشيء يخالف طبيعته، أو يخالف الأخلاق، فهناك آخرون معه يفعلون الفعل نفسه، وهناك آمر، وهناك من سيلقى اللوم معه، أو بدلا منه، إنه عَبْدُ مأمور أو عَبْدُ المأمور كما تقال في مصر.
قال مليغرام إن النتائج مقلقة، ففي الطبيعة البشرية أيضا ميل إلى القسوة والمعاملة اللاإنسانية. عندما تتلقى الأوامر من سلطة فاسدة، ونسبة كبيرة من الناس مستعدون لتنفيذ ما يؤمرون، من دون أخذ طبيعة الأمر بالاعتبار، وبدون حدود يفرضها الضمير، ما دامت الأوامر صادرة عن سلطة شرعية، أو يعتقدون أنها شرعية.
ما الذي يجعل شيخاً رقيق المشاعر يتحوّل إلى وحش كاسر، عندما يواجه شباناً وشابات سمع من شيخ أكبر منه أنهم علمانيون يجوز عقابهم؟
إذا تمكن في هذا الاختبار مشرف مجهول من أن يوجه الأوامر إلى مجموعة من البالغين لقهر رجل في الخمسين من عمره، وإخضاعه لصعقات كهربائية مؤلمة، على الرغم من احتجاجاته ومرضه، لا يسعنا إلا أن نتساءل عما تستطيع الحكومات، بما لها من سلطات أوسع بكثير، أن تأمر به، وهذا ما جعل جنود النازي يتورّطون في جرائم قد تتعارض مع أخلاقهم أو قناعاتهم الشخصية، عندما يكون هناك إحساس مشترك بأخلاقية تلك الجرائم ونبلها، وهذا ما يتكرّر في جرائم التعذيب لأسباب سياسية، أو في انتهاكات حقوق الإنسان بشكل وحشي، أو في المذابح الجماعية، أو حوادث الإبادة على مدار التاريخ.
كثيرا ما كنت أتعجب كيف لجندي بسيط يعاني أيضا من تبعات الفساد والظلم، لكنه ينفذ الأوامر ببسالة ويشارك في عملية ضرب أو سحل لمواطن يعبّر عن رأيه بسلمية، أو يحاول الوقوف ضد الظلم والفساد؟ وكيف يمكن أن يشارك طبيب في إخفاء آثار تعذيب وتزييف الحقائق والتستر على جريمة؟ وكيف من الممكن أن يشارك مخبر في قمع أحد المعتقلين، على الرغم من أنه قد نشأت بينهما علاقة مودة واحترام منذ شهور طويلة، أو مجموعة من المواطنين البسطاء يقمعون مظاهرة تطالب بحقوق البسطاء؟
إنه السبب نفسه الذي يجعل شيخا رقيق المشاعر يتحوّل إلى وحش كاسر، عندما يواجه شبانا وشابات سمع من شيخ أكبر منه أنهم علمانيون يجوز عقابهم أو قتلهم، وهو السبب نفسه الذي يجعل مجموعة من البشر يقومون بمنتهى السهولة بإيذاء مجموعة أخرى من الطائفة نفسها أو الوطن، وربما يكون بعض المعتدى عليهم إخوة أو أقرباء أو معارف للمعتدين الذين سمعوا أن الآخرين أعداء للوطن أو الطائفة أو أعداء للدين، وأن إيذاءهم أو سجنهم أو سحلهم أو تشويه سمعتهم يتم من أجل صالح الوطن أو الدين أو الطائفة أو الأيديولوجيا.
الكل أحيانا يصبح عبدا للمأمور.