تايوان عضواً دائماً في مجلس الأمن!
لعبت الولايات المتحدة دوراً محورياً في إيجاد مشكلة تايوان، وتحويلها إلى شوكةٍ حادّة في حلق الصين. بل لقد وصل الأمر إلى حد السماح لحكومة هذه الجزيرة الصغيرة، المعروفة أيضاً باسم "فورموزا" بشغل مقعد الصين الدائم في مجلس الأمن أكثر من عشرين عاماً، في وضعٍ بدا مخالفاً ومنافياً لكلّ الأعراف القانونية والسياسية والأخلاقية. والسبب إصرار الإدارات الأميركية المتعاقبة على عدم الاعتراف بحكومة الحزب الشيوعي التي استولت على السلطة عام 1949، وتصميمها العنيد على اعتبار حكومة تايوان الممثل الشرعي الوحيد لدولة الصين، وهو وضعٌ شاذّ لم يبدأ في التغير إلّا بعد زيارة الرئيس الأميركي نيكسون بكين عام 1971، فكيف استطاعت الولايات المتحدة أن تفرض على العالم كله قبول هذا الوضع غير الطبيعي، وأن تجبره على التعامل مع جزيرة تايوان وكأنها دولة كبرى، يحق لها أن تحتل مقعدا دائما في مجلس الأمن، وتتمتع بحق النقض (الفيتو) أكثر من عشرين عاما متتالية. أعتقد أنّ هذا الفصل من فصول الصراع على تايوان يستحقّ أن يروى للقارئ كي يتسنّى له فهم جذوره، خصوصاً أنّه (الصراع) راح يتصاعد بدرجة خطيرة في الآونة الأخيرة، وبالذات عقب الزيارة التي قامت بها قبل أسابيع قليلة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي.
لأنّ الصين مترامية الأطراف كانت تشهد حرباً أهلية بين الحكومة القائمة والحزب الشيوعي الصيني الذي تمكّن من الوصول إلى السلطة عام 1949
كانت الصين، حين تأسّست الأمم المتحدة عام 1945، دولة واحدة تحكمها حكومة تشان كاي شيك المتحالفة مع الدول الكبرى التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، ومن ثم شاركت بهذه الصفة في المشاورات التمهيدية التي سبقت إنشاء الأمم المتحدة، وجرى الاعتراف لها بالأحقية في شغل مقعد دائم في مجلس الأمن وبالتمتع بميزة "الفيتو"، شأن الدول الأربع الأخرى دائمة العضوية في مجلس الأمن، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة وفرنسا. ولأنّ هذه الدولة مترامية الأطراف كانت تشهد حرباً أهلية بين الحكومة القائمة والحزب الشيوعي الصيني الذي تمكّن من الوصول إلى السلطة عام 1949، في وقت بدأ فيه التحالف المنتصر في الحرب العالمية الثانية ينهار وينقسم إلى كتلتين متصارعتين تدور بينهما حرب باردة، فقد كان من الطبيعي أن تسعى الولايات المتحدة، باعتبارها زعيمة الكتلة الغربية، إلى وضع كل ما تستطيع من عراقيل أمام حكومة الصين الماركسية الجديدة التي أعلنت تحالفها مع الكتلة الشرقية. لذا، لم تكتفِ بتنظيم هرب حكومة تشان كاي شيك إلى جزيرة تايوان، وإنما تولى الأسطول الأميركي الثامن حماية هذه الحكومة الهاربة، وقدّم لها كل ما يستطيع من دعم لتمكينها من ترسيخ سلطتها وتعظيم قدرتها على البقاء والاستمرار، كما تولت الدبلوماسية الأميركية مهمة الدفاع عن شرعية حكومة تايوان، والتعامل معها باعتبارها الممثل الوحيد لدولة الصين على المسرح الدولي، وكان هذا هو السياق الذي اندلعت فيه المعركة الدبلوماسية الخاصة بقضية تمثيل الصين في الأمم المتحدة.
في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1949، أرسل وزير خارجية الصين الشعبية، شواين لاي، بعدما استتب لحكومته الأمر، وتمكنت من السيطرة على مقاليد السلطة، خطاباً إلى كلّ من رئيس الجمعية العامة والأمين العام للأمم المتحدة، يطالب فيه بطرد ممثلي حكومة تايوان الذين رأى أنّهم لم يعودوا يمثلون إلّا أنفسهم، واعتماد مبعوثي حكومة بكين ممثلين لدولة الصين في مختلف أجهزة الأمم المتحدة وفروعها. ولمّا كانت دورة الجمعية العامة المنعقدة لذلك العام قد قاربت على الانتهاء، حين وصل خطاب شواين لاي، فقد كان من الصعب حسم هذه القضية في أروقتها، وبالتالي أصبح مجلس الأمن ساحة المواجهة الرئيسية. وهناك، تقدّم المندوب السوفييتي بمشروع قرار يطالب فيه بـ "طرد ممثل الحكومة الصينية السابقة واعتماد ممثل الحكومة الجديدة" لكنّ هذا المشروع لم يحصل على الأغلبية المطلوبة، ولأنّ ممثل حكومة تايوان كان هو الذي يتولى رئاسة جلسات مجلس الأمن في هذا الشهر، لم يجد ممثل الاتحاد السوفييتي في المجلس من سبيل أمامه سوى الانسحاب، احتجاجاً على وجود عضو فيه ليس له صفة تمثيلية، ولا يمكنه التحدّث باسم الدولة التي يشغل مقعدها.
نجحت الولايات المتحدة في الإبقاء على ممثلي حكومة بكين بعيداً عن الأمم المتحدة وكلّ المنظمات المتخصّصة المرتبطة بها
وعندما بدأت الجمعية العامة تتعامل مع هذا الموضوع في دورة انعقادها التالي، كانت الحرب الكورية قد اندلعت بالفعل، ولم يكن المناخ السائد في أروقتها يساعد على التعاطف مع حكومة الصين الشعبية. ولذا تغلبت الاعتبارات السياسية على الاعتبارات القانونية عند معالجة هذه المسألة. فمن الناحية القانونية، كان في وسع لجنة فحص وثائق الاعتماد التابعة للجمعية العامة أن تعتمد وثائق التفويض الصادرة عن حكومة بكين، باعتبارها سلطة الأمر الواقع، غير أن الجمعية اتخذت بدلاً من ذلك قرارا عاما، غلبت عليه الاعتبارات السياسية، أشارت فيه إلى أنه "في حال تنازع أكثر من سلطة صفة تمثيل إحدى الدول الأعضاء. يتعين حسم هذا الموضوع في ضوء أهداف الأمم المتحدة ومبادئها، مع أخذ الظروف السائدة في الاعتبار". ولتحقيق هدفها الرامي إلى الحيلولة دون قبول ممثلي حكومة بكين، والإبقاء، في الوقت نفسه، على ممثلي تايوان ممثلين لدولة الصين في مختلف أجهزة الأمم المتحدة وفروعها، لجأت الولايات المتحدة في مرحلة مبكرة إلى تكتيك بسيط، يقضي برفض إدراج موضوع تمثيل الصين على جدول أعمال الجمعية العامة. وطبقاً للوائح المعمول بها في الجمعية، كانت تحتاج إلى ضمان أغلبية عددية بسيطة، لتمكينها من تحقيق هدفها. وعندما لاحظت الولايات المتحدة أن عدد الدول المتعاطفة مع حكومة بكين بدأ يتزايد بمرور الوقت، خصوصاً عقب مؤتمر باندونغ، شعرت بالقلق، وبدأت تبحث عن تكتيك آخر، خصوصاً بعدما اكتشفت عام 1960 أنّ عدد الدول المؤيدة إدراج موضوع تمثيل الصين يكاد يقترب من عدد الدول الرافضة. وهنا، قرّرت تغيير التكتيك المستخدم واستبداله بآخر، يقوم على الموافقة على إدراج الموضوع على جدول أعمال الجمعية، مع اعتباره، في الوقت نفسه، مسألة مهمة وليست إجرائية. ولأنّ الولايات المتحدة كانت تعي أن التعامل مع موضوع تمثيل الصين باعتباره مسألة هامة، يحتاج فقط إلى أغلبية بسيطة، بينما يحتاج قرار طرد ممثلي حكومة تايوان واستبدالهم بممثلي حكومة بكين أغلبية الثلثين، فقد نجحت، من خلال هذا التكتيك الذكي، في الإبقاء على ممثلي حكومة بكين بعيداً عن الأمم المتحدة وكلّ المنظمات المتخصّصة المرتبطة بها. واستمرّ هذا الحال، حتى زيارة الرئيس الأميركي نيكسون الصين عام 1971.
حين جرى التصويت على مشروع ألباني يقضي بطرد ممثلي تايوان، حصل هذا المشروع على أغلبية الثلثين
ومن المفارقات أنّ نمط التصويت على موضوع تمثيل الصين في العام الذي زار فيه نيكسون الصين جاء مناقضاً تماماً لنمط التصويت السابق، فعند التصويت على مشروع قرار أميركي يقضي باعتبار موضوع تمثيل الصين مسألة مهمة، لم يحصل هذا المشروع على الأغلبية المطلوبة، حيث وافقت عليه 55 دولة فقط بينما صوّتت ضده 59 دولة وامتنعت 15. أي أنّ الجمعية العامة اعتبرت تمثيل الصين، ولأول مرة منذ 1950، مسألة غير مهمة، ومن ثم كانت أغلبية بسيطة تكفي لطرد ممثلي حكومة تايوان. ولكن حين جرى التصويت على مشروع ألباني يقضي بطرد ممثلي تايوان، حصل هذا المشروع على أغلبية الثلثين، حيث وافقت عليه 79 دولة، في مقابل 53 وامتناع 17، أي على أكثر من الثلثين، بينما كانت أغلبية بسيطة تكفي لإقراره. بعبارة أخرى، يمكن القول إنّ هزيمة سياسية ودبلوماسية كبرى لحقت بالولايات المتحدة في نهاية المطاف، ولكن في أعقاب مرحلة نجاح دامت أكثر من عشرين عاماً، تمكّنت خلالها من فرض حكومة تايوان على العالم باعتبارها الممثلة لدولة الصين على المسرح الدولي وفي المنظمات الدولية الحكومية.
يستحيل تصوّر إمكانية تخلي بكين عن هدفها في استعادة تايوان بالطرق السلمية، كما يستحيل تصوّر إمكانية تخلي واشنطن عن تايوان
لم يكن في مقدور الولايات المتحدة، حين قرّرت تحسين علاقتها مع الصين الشعبية في وقت كان صراعها الأيديولوجي مع الاتحاد السوفييتي قد بلغ ذروته، إقناع العالم بالامتناع عن التعامل مع حكومة الصين الشعبية، أو بوجود دولتين صينيتين وحكومتين مستقلتين. لذا يمكن القول إنّ طرد ممثلي حكومة تايوان من المنظمات الحكومية لم يكن له سوى معنى واحد، وهو إقرار العالم أجمع بعدم وجود دولة مستقلة اسمها تايوان، وبأنّ هناك دولة واحدة اسمها الصين، تمثلها حكومة بكين على الساحة الدولية. وعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة أصبحت مضطرّة لانتهاج سياسة خارجية تقوم على مبدأ "صين واحدة" منذ عام 1971، إلّا أنّها تمارس، في حقيقة الأمر، سياسة خارجية مزدوجة على طول الخط، تقوم على التعامل مع دولتين صينيتين، لا ترى لها مصلحة في وحدتهما معاً بالطرق السلمية. وتحاول، بكلّ الوسائل والطرق المشروعة وغير المشروعة، الحيلولة دون إتمام هذه الوحدة. وهنا تتجلّى إحدى المفارقات الكبرى في العلاقات الصينية الأميركية التي بدأت تأخذ منحى صراعيا متزايدا وخطرا. ولأنه يستحيل تصوّر إمكانية تخلي بكين عن هدفها في استعادة تايوان بالطرق السلمية، كما يستحيل، في الوقت نفسه، تصوّر إمكانية تخلي واشنطن عن تايوان، والعمل على دعم استقلالها عن الصين، يتوقع أن تشكّل هذه القضية عقبة كبرى، من المؤكد أنّها ستحول دون تحسين العلاقات الصينية الأميركية إلى أن يجري حسمها سلماً أو حرباً.