تاريخ الإسلام .. أبعاد حضارية شاملة

10 يونيو 2022
+ الخط -

ينتسب كتاب "تاريخ الإسلام" (تحرير: أرماندو سلفاتوري وآخرون، ترجمة: أحمد محمود إبراهيم، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2022) إلى مجموعة الأعمال البحثية الجماعية، حيث يضم بين دفتيه جملة من الأبحاث والدراسات لعدد كبير من الباحثين والمؤرّخين في الإسلام من ذوي اختصاصات متعددة، منهم أرماندو سلفاتوري، ويوهان ب. أرناسون، وباباك رحيمي، وروبرتو توتولي، وجورج هاتك، وإيزابيل تورال – نيهوف، ومحمد بامية، وآنا عائشة أكاسوي، وأميرة ك. بنيسون، وديفين ستيوارت، وأحمد ت. قره مصطفى، وبول ل. هيك، وبروس فدج، وأسماء أفسارودين، وباباك رحيمي، وميشيل بيرنارديني، وكاترينا بوري، وديفين ديويز، وماثيو ميلفن – كوشكي، وأ. أزفار معين، وسجَّاد رضوي، وعلي ياسي أوغلو، وإيثان ل. منشينجر، وجين هـ. مورفي، وجمال مالك.

الكتاب ثمرة عقد من العمل والمثاقفة، وأُنجز في إطار مشروعٍ أشرف عليه الباحث المتخصّص في علم الاجتماع والباحث في الأديان المقارنة، أرماندو سلفاتوري، وتتمحور غايته في تقديم عملٍ بحثي مرجعي، ينهض على أساسٍ من النتائج العلمية الجديدة ومقارباتها التي تستند إلى تقاليد البحث ذات الصلة.

وتكمن أهمية الكتاب في أنه مشروع جماعي، يقوم على تصوّر واضح، وفي تقديمه أطروحات ومناقشات علمية، تناولت فيه مجموعة مختارة من الباحثين في التاريخ والدراسات الإسلامية وعلم الاجتماع مختلف الحقب والجوانب المتمايزة للتاريخ الإسلامي، وخرجت بأبحاث ودراسات تتصف بالشمول وبالجدّة، ولا تقتصر على الدراسات الإسلامية، إنما طاولت تحليل التحولات التي طرأت على "المعمورة الإسلامية"، ومختلف الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي مرّت بها منذ ما قبل العصر الحديث وصولاً إلى الأوضاع الحديثة، حيث يجرى اجتراح مفهوم "المعمورة الإسلامية" وفق تصوّر ينهض على أن الإسلام هو آخر تطور جليل الشأن في انتشار عقيدة التوحيد العالمية، وقد وفق الإسلام في إنشاء كومونولث جديد أو معمورة جديدة، كان وسعها تحقيق التماسك في المنطقة الممتدة من النيل إلى جيحون (نهر في آسيا الوسطى)، وما وراءها، وتضاعف سريعاً بوصفه عالم الإسلام الذي يُعد المحرّك الاجتماعي الناضج نضجاً متزايداً، والعملية الحضارية التي تنبئ عن حيوية تاريخية جديدة.

يجرى النظر إلى الإسلام بوصفه حضارةً تخص المركب الحضاري "الأفرو - أوراسي"

ويتألف الكتاب من سبعة أقسام، يتضمن كلّ منها أربعة فصول، تغطّي مختلف الأبعاد الجيوسياسية الأضيق والأبعاد الحضارية الأشمل للتاريخ الإسلامي، إضافة إلى الحقل الكلامي الفقهي، والأشكال التي تخصّ ثقافة النخبة، والبعد الأساسي للتقاليد الصوفية والشعبية، التي يعدّها الكتاب تمثل، في بعض الأحيان، دروباً للهروب من الإجماع، وإن أعادت تشكيله، في أحيانٍ كثيرة، بطرق جديدة.

وينطلق الكتاب من الإقرار بأن التعقّد بات يسم الدراسات التاريخية للإسلام، ويتعارض هذا الإقرار بشكل حادٍّ مع الخطاب العام الذي تحمله دراساتٌ كثيرة، ومع التعميمات المطلقة عن الإسلام في الخطاب الذي تقدّمه بعض وسائل الإعلام. وبناء عليه، يستنطق الطرائق المتنوعة التي يرفد البعد الديني من خلالها نمطاً من "عملية التمدين" في التاريخ، بوصفه يمثل جوهر التقاليد الإسلامية، وتبلور في أشكال مؤسّسة على مستويات مختلفة، اجتماعية ودينية وقانونية وسياسية وثقافية، ومدنية على نحو متشعّب.

وفي إطار النظرية الحضارية التي ترتكز على فكرة العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارات السابقة عليه، يجرى النظر إلى الإسلام بوصفه حضارةً تخص المركب الحضاري "الأفرو - أوراسي"، ويقدّم حالة مفتاحية لفكر الفضاء الكوني عبر الحضاري، بوصفه "عالم الإسلام" الذي ورث وركب بشكلٍ مبدع السمات الثقافية والخصوصيات السياسية لوحدة ثقافية جغرافية ضخمة وقديمة: عالم "الحضارة الإيرانية - السامية ما بعد المسمارية"، بما يشمله من تقاليد ترتكز على النبوة في غالبيتها، وقائمة على البلدات الصغيرة التي تميل نحو التجارة، وأعطاها إمكانات جديدة حضارية بواسطة استثمار هذا الميل نحو التوسّع في أعماق نصف الكرة الأرضية "الأفرو - أوراسي".

يطرح الكتاب مصطلح "المعمورة الإسلامية" وفق تصوّر ينهض على أن الإسلام هو آخر تطور جليل الشأن في انتشار عقيدة التوحيد العالمية

وسبق للمستشرق الأميركي في علم التاريخ، مارشال هودغسون، أن أولى عناية خاصة للكيفية التي يُفترض فيها أن التقاليد الدينية ترفد عملية التمدين الأوسع التي تتشكّل من خلالها المجتمعات والدول. إضافة إلى أنه كان سباقاً في نقد التحيّز الكامن في الآراء الاستشراقية السائدة، وطالب بضرورة انتهاج مقاربة تعدّديةٍ ومنهجيةٍ للعالم المديني قبل الحداثة، لتفسير بنى تاريخ العالم ودينامياته، منطلقاً من تلمّس الوشائج بين المراكز الحضارية والقطاعات الريفية والبدوية في بنى المنطقة الحضارية الأفرو - أوراسية الشاملة ودينامياتها، التي تشير إلى وحدات تعيّن حدودها جزئياً، والأهم أنها تتفاعل فيما بينها وتطوّر قدراتٍ إبداعية داخل حيّز شامل وعالمي.

وتظهر فصول الكتاب الثمانية والعشرين مدى اتساع الرصد والبحث في الملامح العامة التي وسمت الإسلام وتاريخه، من منطلق اعتباره تجربة سياسية حضارية فريدة، وذلك منذ لحظة التأسيس، مروراً بحقبه المختلفة، ووصولاً إلى القرن العشرين، بتياراته الإسلاموية وأساليبه المختلفة التي نَمَتْ من خلالها النزعة الإسلامية، وتغلغلت في الحياة اليومية في الشرق الأوسط وغيره من أقاليم العالم الإسلامي.

والملاحظ أن معظم أطروحاته بُنيت على أفكار مارشال هودغسون وآرائه التي ضمنها في مجلدات كتابه الضخم "مغامرة الإسلام"، وقدّم خلالها سردية بارعة لتاريخ الإسلام افترقت عن سرديات الاستشراق التقليدي، سواء من حيث التحقيب الجديد الذي طرحه لتاريخ الإسلام مستنداً إلى البنية الداخلية لهذا التاريخ نفسه، أم من خلال استخدام المصطلحات الاستشرافية التي أعاد صياغتها وتعريفها في حقل الدراسات الإسلامية.

ويبدأ الكتاب بتناول بدايات الإسلام المتداخلة ووثيقة الصلة بالديناميات الأقدم والأوسع في النطاق الحضاري الإيراني – السامي، ثم يغطي الحقبة الكلاسيكية لعصر الخلافة، من منتصف القرن السابع إلى منتصف القرن العاشر الميلادي، وهي الحقبة التي كان لها الدور التأسيسي، ولا سيما في صياغة الأحكام الضابطة للتفاعل المستقبلي المستمر بين الشريعة، بوصفها تقليداً ينصب على طرائق العيش والتنظيم القانوني، وثقافة الأدب التي كانت تشع في بلاط الحكام وشكلت طبيعة فن الحكم والإدارة، إلى جانب تأثيرها الحاسم في تشريع أشكال حياتية راقية. ثم يجري التركيز على حقبة "نهضة المعمورة" التأسيسية التي استوعبت مختلف أنحاء العالم الأفرو- أوراسي إبّان الألفية الثانية من التاريخ الميلادي، وبعدها يجري تناول فترة تجديد المعمورة الإسلامية المترامية الأطراف منذ استيلاء المغول على بغداد عام 1258م إلى الفتح العثماني للقسطنطينية عام 1453م، ثم يمتد التناول البحثي إلى مطالع الحقبة الحديثة الممتدة من نهاية القرن السابع عشر ومعركة فيينا وصولاً إلى التاسع عشر. وهي الحقبة التي شهدت الصعود العالمي للقوى الأوروبية، وبرزت خلالها الحركات الإحيائية والإصلاحية الإسلامية، لتأتي بعدها حقبة مقاومة الكولونيالية وإعادة التنظيم في عصر ما بعد الكولونيالية.

معظم أطروحات الكتاب بُنيت على أفكار مارشال هودغسون وآرائه التي ضمنها في مجلدات كتابه الضخم "مغامرة الإسلام"

ويظهر الإسلام في أبحاث الكتاب وكأنه منبثقٌ من مزيجٍ معقدٍ من الظواهر داخل مجتمعات مستقرّة استجابت لظروف اقتصادية متغيرة، ومزّقتها موجات ترحال بدوية كانت تجوب شبه الجزيرة العربية من الجنوب إلى الشمال، ويبدو فيها أن المرحلة الطويلة التي استغرقها تبلور تعاليم الإسلام الأولية أنتجت ديناميةً مستمرةً لتشمل دولةً تقتضي شيئاً من التحفظ والاحتياط في إثبات أن ثمّة "دولة إسلامية مبكّرة"، استوفت أركان الدولة. لذلك يقف الكتاب عند الضوابط الأساسية لربط طائفةٍ متنوعةٍ من التفسيرات والنتائج حول بدايات مغامرة الإسلام في التاريخ بمسار لم يؤتِ أُكُله إلا في العصور اللاحقة، بعيداً عن التمييز بين "عصر ذهبي" للإسلام واضمحلاله المزعوم فيما بعد.

وعليه يجري البحث في الآثار الناجمة عن التشابكات الأفرو- أوراسية الأوسع التي أتاحها توسّع الإسلام في حقبة ما بعد الخلافة، والتي أُطلق عليها "العصور الوسطى"، وامتدت إلى منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وجرى النظر إليها كحقبة منقسمة إلى عهدين: مبكّر ومتأخر، تفصل بينهما رمزياً مأساة الغزو المغولي لبغداد سنة 1258م. وقد عرفت هذه الحقبة إنعاش أنماط التنظيم الذاتي الجماعي والحراك الاجتماعي الفردي، الذي كان قد أورث الحياة الاجتماعية العامة في العالم الإسلامي خلال عصر الخلافة الكبرى ضرباً من التماسك، حيث حافظت المعمورة الإسلامية على التوسّع، معتمدةً على شبكاتٍ محليةٍ وإقليمية ودولية تدار ذاتياً إلى حدّ بعيد. أما في العصر الوسيط المتأخر، من الغزو المغولي بغداد وصولاً إلى الاستيلاء العثماني على القسطنطينية البيزنطية، فقد شهد العالم الإسلامي نمواً مثيراً من حيث عدد السكان وتعدّدية المعتقدات والممارسات، حيث تشابك الإسلام، والفكر الصوفي، والتوقعات المهدوية، والتطلعات الطوباوية، وامتزجت كلها من أجل الوفاء بالمحاولات الرامية إلى إعادة بناء نظام عالمي في ذلك الوقت.

ومع مطالع الحداثة (1453 - 1683) نما التاريخ الإسلامي داخل السياق العالمي الأشمل، الذي هيأت الأوضاع الثقافية والسياسية والمادية من خلاله الأجواء لظهور العالم الحديث، وبلغ عالم الإسلام الذروة مع حلول مطالع الحقبة الحديثة، لا من حيث القوة السياسية فقط، إنما من حيث الإبداع الثقافي أيضاً، الأمر الذي دفع هودغسون إلى القول: "لعل زائراً من المريخ يزور الأرض في القرن السادس عشر يظنّ أن العالم الإنساني يوشك أن يغدو عالماً إسلامياً". لكن الأمر اختلف كثيراً فيما بعد مع ظهور الحداثة الكولونيالية، حيث فقدت المعمورة الإسلامية مركزيّتها داخل الصلات العالمية وتوازنات السلطة، وأخذت قوتها بالتآكل، قبل أن تجتاحها أوروبا التي ارتقت إلى طوْر الهيمنة العالمية.

مع القرن التاسع عشر، حوّل الإخضاع الكولونيالي المعمورة الإسلامية إلى ما يسمّى اليوم "العالم الإسلامي"

ومع القرن التاسع عشر، حوّل الإخضاع الكولونيالي المعمورة الإسلامية إلى ما يسمّى اليوم "العالم الإسلامي"، الذي انتقل إلى طور مجابهة الصعود العالمي للقوة الأوروبية، حيث عرف هذا الطور انفصام عُرى الأنماط المرنة والتوسّعية للمعمورة الإسلامية ونكوصها، مقابل الارتقاء السريع في مدارج الهيمنة الأوروبية العالمية، وعرف خطاب الإسلام والخطاب عن الإسلام سمات جديدة، وبلغ درجة غير مسبوقةٍ من التشيؤ. وتصدّرت الطرق الصوفية وأئمتها، في أحيانٍ كثيرة، حركات التجديد الإسلامي طوال هذه الحقبة، وجرى ربط صعود الجماعات الصوفية والإحيائية الناشطة أو التجديدية بالأبعاد الفكرية الموروثة والمقاربات الجديدة للتجنيد والممارسة والتعبئة، وعزّز قدرتها على ابتداع أشكال فاعلة للمدنية قادرة على ممارسة الضغط من أجل إحداث التغييرين، الاجتماعي والسياسي.

ويحذّر الكتاب، خلال تقديمه قراءة لهذه الحقبة، من الوقوع في الشرك المعرفي المتمثل في عزل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على النحو الذي يُشاع في دراسات العقدين الآخرين، عن سياقاتها الإسلامية والعالمية الأوسع، معتبراً أن هذه التسمية التي أطلقت على المنطقة هي ثمرة تطورات الحقبة التي أعقبت السقوط الأخير للمعمورة الإسلامية، لأن التركيز الذي ساد في القرن العشرين على الشرق الأوسط، والذي ورثه القرن الحالي، يُعتبر انعكاساً للممارسات الاستراتيجية التي دأبت عليها القوى العظمى خلال هذه الحقبة. ونتيجة لتلك النظرة بالغة التشوّه التي تعتمد على إبستمولوجية ساذجة، تنظر إلى العالم الإسلامي بوصفه امتداداً منتظماً للمعمورة الإسلامية، فيما يظهر الواقع العالمي أن الأقاليم الإسلامية التي لا تنتمي إلى الشرق الأوسط أصبحت لها الغلبة المتزايدة كماً ونوعاً في العالم الإسلامي في عصرنا الراهن.

 

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".