تأملات غير مكتملة في عشرية الثورة السورية
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
قبل نحو عشرة أعوام، كنت في زيارة إلى أبوظبي، للمشاركة في حلقة من برنامج "حوار العرب" الذي كانت تبثه قناة العربية، خصصت وقتها لمناقشة مقدّمات استقلال جنوب السودان ونتائجه. وكانت آراء المشاركين بصورة عامة تركز على ضرورة التعامل بعقلية استيعابية مع القضايا المشابهة، والاستعداد للتعامل مع مطالب التغيير بصورة إيجابية لتجنّب الصدامات العنيفة. وبعد انتهاء تسجيل البرنامج، كان اللقاء مع إخوة وأخوات من الكرد السوريين المقيمين في الإمارات لتداول أبرز المستجدات، ومناقشة أهم التوقعات، وكانت الثورة التونسية قد بدأت، والأوضاع في مصر في طريقها نحو الانفجار، والجميع كان موزعاً بين التمنيات والهواجس.
وفي أثناء المناقشات، تدخل مدير الجلسة، ليعلن نبأ مغادرة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بلاده؛ فكانت فرحة عارمة، وتمنى الجميع أن نشهد في سورية وضعاً شبيهاً بذلك. ولكن الخوف على البلد وأهله كان هو الآخر مشروعاً في ذلك الحين، لمعرفتنا بالطبيعة المتوحشة للنظام، واستعداده لفعل أي شيء من أجل البقاء. ومع انطلاقة الثورة المصرية التي أرغمت الرئيس حسني مبارك على التنحّي، تصاعد مستوى التمنيات بانتقال عدوى الثورة، إذا صحّ التعبير، إلى سورية، وكان من الواضح، في ذلك الحين، أن الموضوع قد بات موضوع وقت ليس إلا.
ودائماً كنا نتحسّب لوحشية السلطة في سورية، وهي التي أعلنت قبل الثورة بسنوات موقفها من أي اعتراض على حكمها المستبد الفاسد، وكان الشعار التعبوي الذي جسّد موقفها هذا هو "الأسد أو نحرق البلد"، وكان يتفاخر به أتباعها وجوقة المنافقين من المستفيدين منها. ففي تونس، اتخذ الجيش موقفاً محايداً بعض الشيء من موضوع التغيير، وربما طالب بن علي بالخروج. ولم يكن الوضع في مصر بعيداً هو الآخر عن هذا المنحى. أما في سورية، فقد كان الجيش أداة قمعية متماهية مع الزمرة الحاكمة نفسها، وكذلك الأجهزة المخابراتية، بأسمائها المختلفة ووظائفها المتداخلة.
بدأت الثورة في سورية لأسبابها الخاصة التي تمثلت في تراكمات عقودٍ من الاستبداد والفساد والإفساد، كما تمثلت في انسداد الآفاق أمام الجيل الشاب
كانت الحالة السورية أقرب إلى الحالة الليبية؛ إلا أن الذي حصل في ليبيا أن تدخل المجتمع الدولي أنقذ الموقف، ومنع تفرّد نظام معمر القذافي بالليبيين، وارتكاب المجازر بحقهم. على الرغم من أن ذلك التدخل اكتفى بإسقاط النظام، ولكنه لم يقدّم المطلوب لمساعدة الليبيين للنهوض بمجتمعهم. ولم يكن ذلك المطلوب، في ذلك الحين، باهظ التكاليف بكل المقاييس، ولكن يبدو أن حسابات التنافس بين القوى الإقليمية والدولية قد حالت دون ذلك.
وبدأت الثورة في سورية لأسبابها الخاصة التي تمثلت في تراكمات عقودٍ من الاستبداد والفساد والإفساد، كما تمثلت في انسداد الآفاق أمام الجيل الشاب. وقد اتخذت الثورة، في بداية الأمر، شكل مظاهرات واعتصامات مدنية سلمية، شارك فيها الشباب بالدرجة الأولى، وكانت الفعاليات الاحتجاجية أشبه بمهرجانات احتفالية. وكان واضحا، منذ البداية أيضاً، أن النظام يدفع الأمور نحو فرض العسكرة على الثورة. مع أن المطالبات كانت في المراحل الأولى إصلاحية، تطالب بالتغيير ومعالجة الأمور بالإصلاحات، وهي مطالباتٌ دعت إليها وجوه من النظام نفسه، وأبدت استعدادها لمناقشتها، وحتى تلبيتها، شرط عدم الإخلال بموقع النظام نفسه.
ولعل ما حصل من مناقشات، وما كان من مطالباتٍ في اللقاء التشاوري في دمشق، في 10 يوليو/ تموز 2011، وأداره فاروق الشرع، يلقي ضوءاً في هذا الاتجاه. كما أن حزمة "الإصلاحات الهستيرية" التي أعلنت عنها بثينة شعبان، في بداية الثورة، كانت محاولة للالتفاف على المطالبات السلمية التي نادى بها الشباب السوري في جميع أنحاء سورية. وفي لقاء موسع مفتوح بين المثقفين السوريين والأتراك، نظمه منبر إسطنبول للحوار السياسي في أواخر شهر إبريل/ نيسان 2011، وذلك بعد مرور نحو شهر على انطلاقة الثورة، تقدّمتُ باقتراح علني، فحواه تشكيل مجلس مؤقت، مهمته قيادة عملية التغيير والإصلاح في سورية، إلى حين إجراء انتخابات حرّة نزيهة تسفر عن انتخاب برلمان (مجلس شعب) يعبر بالفعل عن إرادة السوريين الأحرار، وتشكيل حكومة، مهمتها تطبيق برنامج الإصلاح. واقترحت، في ذلك الحين، أن يكون بشار الأسد نفسه من يقود هذا المجلس، شرط أن يبدي الإرادة والقدرة على أداء هذه المهمة. ورغبة في طمأنة السوريين جميعاً، وتحاشياً لأي نزاع داخلي أهلي، اقترحت اسم الأستاذ الجامعي، عارف دليلة، من يقود المجلس المقترح، في حال عدم موافقة بشار.
كانت السلطة، أو بكلام أدق، الزمرة اللامرئية المتحكمة بمفاصل القرار في الدولة السورية، قد خططت لتصفية الحساب مع السوريين الثائرين في مواجهة استبدادها وفساده
وفي الداخل الوطني، أبدي السوريون باستمرار في لقاءاتهم مع المسؤولين، في بداية الثورة، رغبتهم في إصلاحات. ويشار هنا، على وجه التخصيص، إلى لقاء مواطنين من درعا مع بشار الأسد نفسه، بعد اعتقال أبنائهم وتعذيبهم. ولكن كان من الواضح أن السلطة، أو بكلام أدق، الزمرة اللامرئية المتحكمة بمفاصل القرار في الدولة السورية، كانت قد خططت لتصفية الحساب مع السوريين الثائرين في مواجهة استبدادها وفسادها. ولم يكن قرار هذه الزمرة بعيداً عن توجيهات (ومطالبات) النظام الإيراني الذي كان يخطط، منذ عقود، لتكون سورية نقطة ارتكاز في مشروعه الإقليمي. وإذا عدنا إلى الوراء بعض الشيء، نستطيع الربط بين جملة من الأحداث التي تلقي مزيدا من الأضواء على أهمية تحكّم النظام المذكور بالساحة السورية في سياق مشروعه التوسعي، فتفجير النزاع المذهبي المقيت في العراق كان بجهود مشتركة بين النظامين، الإيراني والسوري، وبحجّة مقاومة الاحتلال الأميركي. في حين أن ما جرى كان، في واقع الحال، حرباً مفتوحة على المدنيين العراقيين، لتأجيج المشاعر المذهبية، وفصل العرى الوطنية بين العراقيين، وفرض حالة استقطابٍ على السنة والشيعة منهم. وقد شكل النظام الإيراني الفصائل المذهبية الشيعية الخاصة به ودعمها، فيما جيّش النظام البعثي "العلماني" العرب السنة تحت مختلف الشعارات، وأشركهم في عملية الفوضى العارمة التي لم تترك للعراقيين الوطنيين الحريصين على مستقبل شعبهم وبلدهم أي فرصةٍ لالتقاط الأنفاس. ثم جاء اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق، رفيق الحريري، ليفسح المجال أمام الهيمنة المطلقة لحزب الله. ومع بروز ظهور بوادر إمكانية إصلاح نظام بشار من الداخل، عبر البحث عن بديل لبشار، تم اغتيال غازي كنعان الذي كان يعتبر خزّان الأسرار وتفاصيل الوضع اللبناني الدقيقة، وكان عارفاً بكل الجهود الإيرانية الخاصة بالتوسع والانتشار، سواء في سورية أم في لبنان، وحتى في العراق.
هذه المعطيات وكثير غيرها تُبين أن قرار الزمرة المعنية كان المواجهة المفتوحة مع الشعب السوري، فقد كانت تدرك أن أي تنازل، مهما كان ضئيلاً، سيكون بالنسبة لها مقدّمة للتهميش وفتح الحسابات معها. ويبدو أن قراءة تلك الزمرة، في قرارها الذي استند، بطبيعة الحال، إلى الخبرة والرعاية الإيرانية والروسية، أوصلتها إلى قناعةٍ بأن المجتمع الدولي لن يكون جادّاً في مواجهتها، خصوصا بعد التشاور مع الروس والإيرانيين. وإلا لم يكن في مقدورها ارتكاب كل الجرائم الكبيرة التي تصنّف جرائم حرب وضد الإنسانية، أمام مرأى العالم ومسمعه، ومن دون أن تحسِب أي حسابٍ لردود الأفعال الدولية.
ومنذ بدايات تشكيل المجلس الوطني السوري، كنا ندرك أن النظام قد اعتمد استراتيجية إبعاد جميع المكونات السورية، ما عدا المكون العربي السني، عن الثورة، ليبقى الأخير وحيداً في المواجهة، وتُنسب إليه تهمة الإرهاب، حتى تصبح عملية المواجهة العسكرية معه مغطّاة أمام الرأي العام السوري والدولي. وقد ارتكبت قيادة المجلس أخطاء في ذلك، ليست هذه السطور بصدد التفصيل فيها، وإنما يُكتفى بمجرد الإشارة إليها، إذ لم تتمكّن تلك القيادة، خصوصا في الأشهر الأولى من تأسيس المجلس في خضم الثورة، من طمأنة المكونات السورية المجتمعية جميعها. لم يتواصل معها كم ينبغي، وإنما كانت تراهن على قراءة متسرّعة خاطئة للأحداث، خلاصتها أن التغيير قادم، وأن المسألة مسألة وقت ليس إلا.
أسهم النظام نفسه في ظهور بعض الفصائل المسلحة الإسلاموية، بإطلاقه سراح عديدين من السجون، أصبحوا لاحقاً على رأس قيادتها
وعلى الرغم من محاولات المجلس العديدة توحيد صفوف الجيش الحر، إلا أنها لم تكن منظمة جديا كما ينبغي، ولذلك لم تكن مثمرة. وكان واضحا مع بروز الفصائل المسلحة الإسلاموية، مع اختلاف جرعة التشدد، أن خطة النظام قد نجحت، بل لقد أسهم النظام نفسه في ظهور بعض تلك الفصائل، بإطلاقه سراح عديدين من السجون، أصبحوا لاحقاً على رأس قيادتها، بل تمكّن النظام من زرع كثير من عناصره بين صفوفها، مستغلاً حالة الفوضى، وانعدام المعلومات المطلوبة لدى قيادة المجلس الوطني التي لم تكن تتابع بدقة ما كان يجري على الأرض، فقد كانت هناك حالة انفصال شبه كلية بين العمل السياسي والعسكري. كانت لدى قيادة المجلس علاقة معقولة مع الجيش الحر، ومن ثم المجالس العسكرية في البداية. ومع الوقت، تمكّنت الفصائل الإسلاموية من تجاوز الجميع، وفرضت نفسها. ولم تكن في حاجةٍ إلى المجلس أصلا، لأنها كانت تحصل على السلاح من غرفتي موم وموك. وعلى المال من الجهات الممولة غير السورية. وأصبحت، في واقع الحال، حالة منفصلة، لا سلطة للمجلس، ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، عليها، بل أصبحت أداة للضغط وفرض المواقف، خصوصا في مرحلة "الائتلاف". ثم جاء مسار أستانا، لتتبين مدة هشاشة الفصائل، وخضوعها شبه التام لأوامر الممولين والداعمين وتعليماتهم، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه.
عوامل كثيرة أدّت إلى الانتكاسات التي تعرّضت لها ثورة السوريين، إقليمية ودولية، وداخلية أيضا في مقدمتها الفوضى العارمة في العمل العسكري، وعدم خضوع القرار العسكري للقرار السياسي، وهذا مردّه إلى عدم وجود أحزاب وطنية سورية قوية، كان من شأنها أن تقود العمل السياسي، والعسكري إذا ما لزم الأمر، بما يخدم مصلحة السوريين، لا بما يتناسب مع مصالح الدولة التي اتخذت، وما زالت تتخذ، من الواقع السوري أداة لإدارة خلافاتها، وتسجيل مزيد من النقاط، استعداداً لتفاهمات وتوافقات لن تأخذ تطلعات السوريين وتضحياتهم بعين الاعتبار، ما لم يأخذ السوريون العبرة مما كان، ويعيدون ترتيب صفوفهم عبر التركيز على المشتركات التي تجمع بينهم، وهي أكثر بكثير من النقاط الخلافية، وهو ما لن يكون من دون طمأنة جميع السوريين.
ما يحتاج إليه السوريون قيادة وطنية متماسكة، حريصة عليهم جميعهم، تبحث عن بدائل واقعية ممكنة تعطيهم الأمل بأن الخروج من النفق المظلم ممكن، طالما أن المستقبل الزاهر للأجيال السورية المقبلة هو الهدف.
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.