بين وعديْن مشؤوميْن
رغم انقضاء مائة سنة وأكثر على إصدار وعد بلفور، الذي لا يتم ذكرُه في الأدبيات السياسية العربية إلا مقروناً بمفردة "المشؤوم"، أعادت رئيسة الحكومة البريطانية الجديدة ليز تراس، قبل أيام، نكء الجرح الغائر في الذاكرة الفلسطينية المثخنة بجملة طويلة من الجراح المستعصية على الشفاء، عندما تعهّدت هذه السيدة المتفاخرة بصهيونيتها، أمام نوابٍ من حزب المحافظين (الحاكم)، يسمّون أنفسهم "أصدقاء إسرائيل" بنقل سفارة بلادها إلى مدينة القدس المحتلة، في خطوة أخرى شائنة من بلاد بلفور، تبدو مثل رشّ الملح على الجرح النازف، أو كدس الإصبع في العين، ولا سيما أن الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عن ممتلكاتها هي المسؤولة عن إرساء حجر أساس الدولة العبرية، وبالتالي غرس هذه النبتة السامّة في أديم الشرق الأوسط.
بدون مقدمات أو ذرائع أو مسوّغات، وفي خروجٍ فظّ عن السياسة المتبعة من الخارجية البريطانية، المعتمدة عقودا طويلة، بادرت ليز تراس، القادمة من وزارة الخارجية ذاتها، بقطع تعهّد علني، تدرس بموجبه خطوة نقل السفارة إلى المدينة المحتلة، الموسومة بهذه التسمية (المحتلة) من جانب قرار صادر عن مجلس الأمن، ساهمت لندن في إصداره قبل عقود، والتزمت به سائر الحكومات البريطانية المتعاقبة، الأمر الذي بدا فيه تعهّد ليز تراس بمثابة خروجٍ عن النص، الغاية من ورائه التزلّف لدولة احتلالٍ بغيض، تمارس القتل والتوسّع والتمييز العنصري، ما سيجعل من هذا التعهد المجاني جائزة ترضيةٍ لمن يستحقّون المساءلة والعقاب.
لا يمكن فهم هذا التوجّه الشاذّ من رئيسة وزراء أتت إلى "10 داوننغ ستريت" عصر يوم أمس فقط، إلا باعتباره من أشكال الرياء السياسي والنفاق الشخصي، لجأت إليه سيدةٌ جديدةُ على تسنم المنصب الرفيع، مليئة بالخشية على استمراريتها في سدّة الرئاسة، وهو ما لم يدرج عليه سوى رؤساء أميركيين كانوا يتوسّلون رضا جماعات الضغط الصهيونية النافذة في واشنطن، الأمر الذي يُعدّ شذوذاً عن التقاليد البريطانية المعمول بها، حتى من رؤساء حكوماتٍ عُرفوا بتأييدهم الشديد لدولة الاحتلال الكريه. ومع ذلك، لم يقارفوا مثل هذا التعهد المشؤوم، حفاظاً على مصالح بريطانيا مع العالم العربي، وتماشياً مع رأيٍ عام أوروبي ضاق ذرعاً بفاشية إسرائيل.
ليس جديداً القول إن خطوة تراس المزمعة تحاكي قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي كسر عُرفاً دبلوماسياً راسخاً لدى واشنطن يقضي باعتبار القدس مدينةً محتلة وأن مصيرها لا يحدّده جانب واحد، إلا أنه استجاب لتمنّيات بنيامين نتنياهو في حينه، حيث أغلق القنصلية الأميركية في الجزء الشرقي من المدينة المقدّسة، ونقل سفارة بلاده إلى الجزء الغربي منها، في إطار سياسة أشمل، ممهّدة لتصفية القضية الفلسطينية بالكامل، من خلال ما سمّيت صفقة القرن، الأمر الذي يحمل على الاعتقاد أن رئيسة الحكومة البريطانية تود الغزْل على منوال ترامب، خيطاً بخيط، وذلك على العكس من رئيسة الحكومة السابقة تيريزا ماي، التي عارضت قرار ترامب وتمسّكت بقرارات مجلس الأمن.
وأحسب أن توجه ليز تراس، الذي لم يبلغ مستوى القرار بعد، يتطلّب في هذه الآونة الاعتراض والتنديد من جانب كل صاحب قلم أو منبر أو منصّة، بمن فيهم البرلمانيون، عرباً كانوا أم فلسطينيين، أن يكتبوا وأن يحتجوا على هذا القرار المحتمل، وأن يرفعوا أصواتهم عالياً، أعلى من صوت الأمين العام لجامعة الدول العربية، في وجه هذا التوجّه، الذي من شأنه تشجيع دولة الاحتلال على ارتكاب مزيدٍ من عمليات القتل والقمع والإعدامات الميدانية داخل البيوت وعلى أرصفة الشوارع في الضفة الغربية، حيث يمكن لمثل هذه الأصوات العربية المستنكرة خطوة تراس، أن تُحدِث فارقاً نوعياً لدى متّخذي القرار قبل أوان صدوره.
ولعل مظاهر الضعف والارتجال والخفّة البادية، جهاراً نهاراً، على رئيسة الحكومة البريطانية، وكلها على خلفياتٍ اقتصاديةٍ وماليةٍ وسوء تقدير كلّف الخزينة نحو 300 مليار جنيه، قبل أن يمضي شهر واحد على تسلّمها المنصب، أمر يضاعف من أهمية الحملة التي ندعو إلى القيام بها في هذه اللحظة الحرجة للسيدة في "داوننغ ستريت"، ولا سيما أن هناك مسعىً بدأ من داخل حزبها الحاكم لعزْلها عن سدّة الحكم، وهذه سابقةٌ لم تحدث من قبل مع رئيس حكومةٍ بريطانيةٍ سابق، غداة تولّيه المسؤولية، الأمر الذي يزيد من أهمية حملة التنديد المقترحة، وقد يؤدّي إلى دفن خطوة نقل سفارة دولة الانتداب الدارسة في مهدها.