بين الأصل والتقليد في المشهد السياسي الفرنسي

21 فبراير 2021

جيرار دارمنان ومارين لوبين في مناظرة تلفزيونية في باريس (11/2/2021/فرانس برس)

+ الخط -

"السيدة لوبين تبدو متساهلة في ما يخص الإسلاميين وربما عليها أن تأخذ فيتامينات". .. هذا الانطباع المفاجئ، والذي ملأ وسائل الإعلام، خرج به وزير الداخلية الفرنسي جيرار (موسى) دارمنان، في خلاصة حواره التلفزيوني مع رئيسة الحزب التجمع الوطني، اليميني المتطرّف، مارين لوبين. وقد قابلته الأخيرة بالثناء على كتاب له صدر أخيرا عن الانفصالية الإسلامية، إلى درجة القول إنها كان يمكن أن تكتب الكلام نفسه. وقد كان هذا الحوار منتظراً لإعلان البدء في حملات الانتخاب للرئاسيات المزمع عقدها بعد 15 شهرا. وحيث إن الوزير العتيد هو أكثر وزراء الرئيس إيمانويل ماكرون بروزاً إعلامياً، وتقبلا يمينياً، فقد وقع الاختيار عليه لمواجهة المنافسة الوحيدة المنتظرة حتى الآن لتجديد رئاسة ماكرون، في ظل ضعف اليمين التقليدي، وانهيار اليسار والخليط الهجين الذي يُشكّل الأغلبية الحاكمة من حزبٍ تم تأسيسه على عجل، غداة انتخابات 2017. وعلى العكس من النتيجة التي أوضحت تطابقاً في وجهات النظر، كان الهدف من المواجهة تحديد مواضع الخلاف بين الأكثرية الحاكمة واليمين المتطرّف في سعي إلى التمايز النسبي.

في الأشهر القليلة الماضية، وعلى الرغم من اجتياح كوفيد 19 فرنسا كما باقي الدول بنسب متفاوتة، وعلى الرغم من وقع هذا الوباء التدميري في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية، وعلى الرغم من ضحاياه الذين وصلوا في فرنسا وحدها إلى 83400، حسب أحدث إحصاء رسمي، يلتهي النقاش العام في وسائل الإعلام المختلفة، كما في التصريحات السياسية للحكومة أو للمعارضة، بالخطر الذي يُمثله الإسلام السياسي على الجمهورية الفرنسية ومبادئها. وقد وصل هذا النقاش الصاخب، والذي أجّجته قنوات تلفزية يملكها رجال أعمال يمينيون متطرّفون إلى درجةٍ من العبث الخطير، إلى درجة تبنّي غالبية المعلقين من الحزب الحاكم مفرداتٍ يمينيةٍ متطرّفة، كانت مدانةً في الماضي القريب، وكان التصريح بها يمكن أن يودي إلى المثول أمام القضاء.

يتبنّى اليوم غالبية المعلقين من الحزب الحاكم مفرداتٍ يمينيةٍ متطرّفة، كانت مدانةً في الماضي القريب، وكان التصريح بها يمكن أن يودي إلى المثول أمام القضاء

إثر هذا اللقاء الودّي وغير العاصف، والذي أظهر محاولةً لحزب الأغلبية الحاكمة للتقرّب من أصوات اليمين المتطرّف، تابعت وزيرة التعليم والبحث العلمي فريديريك فيدال تعزيز التنافس مع التوجهات المتطرّفة لدى اليمين الفرنسي على أنواعه، وصرّحت إنها شكّلت لجنة تحقيق لدراسة مدى تغلغل الأيديولوجيا اليسارية ـ الإسلامية في الجامعات، وفي مراكز الأبحاث المعنية بالعلوم الإنسانية. ولأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة في فرنسا، يصدر تصريح بهذا البعد الأمني لمن منوط به تمثيل مصالح الحقل الأكاديمي. وقد رفضه بسرعة قياسية مجلس رؤساء الجامعات، كما إدارة المركز الوطني للبحث العلمي، عبر إصدار بيانات شديدة اللهجة، دعت بعضها الى استقالة الوزيرة التي لم تجد ما تقوله في هذه الفترة العصيبة سوى هذا الكلام الإقصائي وغير المسنود، والذي يُغازل أعتى الأفكار المتطرّفة، والمصابة برهاب الإسلام. وقد شدّدت هذه البيانات على استقلالية الحقل الأكاديمي الفرنسي عن الجهات التنفيذية، منبّهة إلى تأثير الرغبة في مغازلة أفكار اليمين المتطرّف على خطاب الوزيرة. في حين أن الوزيرة لم يكن لها حضور يذكر في متابعة أوضاع الجامعات المأساوية نتيجة الأزمة الصحية، حيث تُجمع الدراسات الفرنسية على الآثار الكارثية للوباء في أوساط طلبة الجامعات، اقتصادياً وعلمياً ونفسيا، فالإغلاق الجزئي أو الكامل للجامعات أثّر بشدة على العملية التعليمية. وأيضاً، فقد أدّى فقدان الوظائف الصغيرة للطلبة، والتي تساعدهم عادة على تغطية النفقات اليومية، إلى ارتفاع كبير في عدد الطلاب الفقراء، والذين صاروا يلجأون إلى المنظمات الإنسانية للحصول على المواد الغذائية الأساسية.

مصطلح اليسارية الإسلامية أطلقه في 2002 المؤرخ بيير  تاغييف، لوصف المثقفين اليساريين من الفرنسيين المؤيدين للقضية الفلسطينية، اتهمهم بالاقتراب من الأوساط المعادية للسامية

مصطلح اليسارية الإسلامية أطلقه في سنة 2002 المؤرخ بيير أندريه تاغييف، لوصف المثقفين اليساريين من الفرنسيين المؤيدين للقضية الفلسطينية، والذين اتهمهم حينذاك بالاقتراب من الأوساط المعادية للسامية. وفي سنة 2003، عاد هذا المصطلح إلى التداول، إثر اندلاع النقاش العام في مسألة منع الحجاب الإسلامي في المؤسسات العامة. وقد استخدمه مؤيدو المنع ضد معارضيه. وقد ارتبط استخدام هذا المصطلح أساساً باليمين وباليمين المتطرّف. وإثر العملية الإرهابية التي تعرّض لها طاقم صحيفة شارلي إيبدو سنة 2015، توسّع استخدامه إلى أطراف عدة يسارية ويمينية متطرّفة ومعتدلة، لتأطير كل من حاول الابتعاد عن الخلاصات السريعة والمتسرّعة، في فهم الظواهر الاجتماعية والثقافية، كما كل من سعى إلى البحث الجاد في أسباب التطرّف والتوجهات الراديكالية في المجتمع. وقد شمل أيضاً هذا المصطلح في تصنيفاته كل الباحثين العاملين على الفترات الاستعمارية، وعلى تاريخ العنصرية وارتباطاتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بجزءٍ من تاريخ فرنسا. كما يشمل حتى الباحثين في مجال تخطيط المدن والأحياء الهامشية، والذين يطوّرون استنتاجات علمية، من خلال متابعة التطورات القائمة والمنظورة في الأحياء المهمّشة.

ربما تدفع الوزيرة ثمناً سياسياً لتصريحها، وربما تمسّك بها الرئيس ماكرون، ولكن الواضح أن هناك توجّها إلى الصيد في أراضي اليمين المتطرّف، ومحاولة الاستحواذ على أصواته، للتخفيف من قدرته على المنافسة في الانتخابات المقبلة، وزيادة حظوظ الفريق الرئاسي في التجديد. والخشية أن يميل الناخب إلى اختيار الأصل والابتعاد عن التقليد.