بيت ساحور تُحرز جائزة كتارا
ربما يحتالُ العنوان أعلاه على قارئ هاته المقالة، ولكن ليس كثيرا، ذلك أن إبراهيم نصر الله كتب إن فوز روايته "دبابة تحت شجرة عيد الميلاد" (الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2019) بجائزة كتارا للرواية العربية (مع أربع غيرها من بين 930 رواية) هو فوزٌ لمُثُل الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وجماليات المقاومة، كما تمثلت في مدينة بيت ساحور الفلسطينية (محافظة بيت لحم). ولمّا كانت هذه الرواية شكرا كبيرا من كاتبها إلى أهالي بيت ساحور (15 ألف نسمة)، بشكل خاص، على ما قال، وهم الذين "منحونا واحدةً من أعمق حكايات النضال عبر التاريخ الفلسطيني، بعصيانهم المجيد في الانتفاضة الأولى"، فإنه يصبح وجيها القول بفوز المدينة، كما بدت عظيمةً وبديعةً بقلم صديقنا إبراهيم نصر الله، بالجائزة، ولا يعود ثمّة محلٌّ للاحتيال المشار إليه. على أن تلك الانتفاضة، وإن يبسُط السرد صفحاتٍ كثيرةً لها، ليست الموضوعةَ الوحيدةَ في هذه الرواية ذات السمْت الملحمي، فالحكايات التي تحتشد وتتناسل وتتوالى في النص تتوزّع في نحو خمسةٍ وسبعين عاما، لنكون أمام أجيالٍ تتعاقب، وأمام فضاءات بيت ساحور، الجمالية والإنسانية والاجتماعية والثقافية، في كل هذا الزمن الذي كان ناس هذه المدينة في غضونه يقاومون شهوة المحو التي تسلح بها الصهيوني المحتل ضد فلسطين. وقد صنع هؤلاء الناس في بيت ساحور، المقيمة في تاريخٍ بعيدٍ متصلٍ بحاضرٍ حيٍّ، الكثير لهزيمة تلك الشهوة. ووقع إبراهيم نصر الله على كثيرٍ من هذا الكثير، وأضاءَه في واحدةٍ من أعمال الملهاة الفلسطينية التي يكتبها. ومن جديدٍ فائق القيمة أن "دبابة تحت شجرة عيد الميلاد" تساهم، باقتدار بيّن، في تظهير دور الفلسطينيين المسيحيين، العظيم، نضاليا وإنسانيا وثقافيا، الأمر الذي "قصّرت" فيه المدوّنة الروائية الفلسطينية. وفي ظن صاحب هذه الكلمات أنه ما من عمل روائي فلسطيني اعتنى جيدا بهذا الأمر، قبل منجز إبراهيم نصر الله هذا، ما قد يجيز زعما ثانيا، لا احتيال فيه، إن جائزة كتارا للرواية العربية كرّمت، في دورتها السادسة، الفلسطينيين المسيحيين أيضا، في بيت ساحور بخاصة.
ولمّا كان المعهود في المتن الروائي الفلسطيني حضور الجندي الصهيوني قاتلا ويهدم البيوت ويأسر المقاومين وحسب، فإن نصر الله، في روايته المُحتفى بها هنا (الثانية له تفوز بجائزة كتارا)، ينشغل كثيرا بشخصياتٍ صهيونيةٍ، لتحضر في النص مكتملةً، إلى حد ما، فنقع على كيفيات تفكيرها، وما يجوس في جوّانياتها وأفهامها، باستطراداتٍ وفيرة. وبهذا الشغل المُعتنى به في هذا الخصوص في "دبابة تحت شجرة عيد الميلاد"، وكذا بالذي وقع في حواشينا، نحن قرّاء الرواية، في خصوص مسيحيي بيت ساحور (ثمّة حضورٌ لأفرادٍ مسلمين طبعا)، فإن إبراهيم نصر الله في صنيعيْه هذين بادر إلى بناءٍ عمرانيٍّ روائيٍّ، جديدٍ ومثير، وشائقٍ للحقّ على الرغم من استرسالاتٍ فائضةٍ أحيانا (وزائدة؟) في غير موضع، ليغادر قارئ الرواية صفحاتها الطويلة (510)، وقد احتلّت أخيلتَه ومداركَه تلك الفتنة في شخصية مرتا، عازفة البيانو التي تُستهلُّ الرواية بطلب فريد الأطرش منها العزف، وتلك الطاقة في مغالبة الحياة في شخصية زوجها اسكندر، وكل ذلك الصمود في ابنهما بشارة وحفيدهما زيدان، وكل القبح في الاحتلال الذي لا يعرف غير القتل والتجبّر لقهر المدينة وناسها. وقبل هذا كله وغيرهما، وبعدهما، كل بيت ساحور، أفراحا وأحزانا ووداعةً وكفاحا، وكل الحياة فيها التي تتجدّد في مواجهة التمويت والقتل، وذلك في تفاصيل يُغبَط إبراهيم نصر الله على التقاطها، وتوظيفها في مبنىً سرديٍّ، حارّ وحاذق.
أبدع ناس بيت ساحور في ابتكار مقاومةٍ وصمودٍ لا يوصَفان، إبّان الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وقد جاءت الرواية على موقعة البقرات الـ18 (ثمّة فيلم سينمائي عنها)، التي أعيوا فيها المحتلين، وعلى رفضهم هوياتٍ أرادت إسرائيل فرضَها عليهم، وذلك في حكايات موصولةٍ بحكاياتٍ أبعد زمنا، منذ ما قبل الأربعينيات. لتنطق الرواية بمقولتها المظلّلة بغواية القص عن الحياة، وحب الحياة، وموجزها هزيمة المشروع الصهيوني في فلسطين، عندما يرى الفلسطيني ملغىً، لا وجود له، على ما أريد أن تشيعَه صور يُبتعث يهوديٌّ من برلين ليلتقطها في "أرض الميعاد" في مطالع القرن الماضي.. ثم يصبح الرصاص القاتل بديلا عن الكاميرا، غير أن اثناهما يخيبان، عندما تصدّهما البهجة بالجمال والحب، حيث أنفاس البيانو في منزل اسكندر، وأنامل مرتا تعزف عليه، تتآخى مع عصافير بلا عدد في فلسطين، وحيث حيرة مُخبر مُستضعف مستخدم (ساذج وظريف) في سبب عداوة المحقق المحتل من جنينٍ لم يولد بعد .. في واحدة من مقاطع روايةٍ أحرز فيها أهل بيت ساحور جائزةً مستحقّة.