بن غفير الأردني
ينقل موقع أكسيوس الأميركي عن مسؤول إسرائيلي قوله إن وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، يتصرّف كأنه بن غفير الأردني. ويكشف الموقع أن حكومة نتنياهو طلبت من الإدارة الأميركية دعوة الحكومة الأردنية، وخصوصاً الصفدي، إلى تهدئة خطابها المندّد باقتحام المسجد الأقصى والاعتداء الوحشي على المعتكفين فيه.
ليس الصفدي بن غفير ولا سموتريتش في أي حال، فهو لم يقتحم كنيساً في واحدةٍ من زياراته (الكثيرة بحكم عمله)، ولم يسبق أن ألقى كلمةً في بانكوك أو الدار البيضاء ووراءه خريطة لبلاده تضمّ إسرائيل. كما لم يتحدّث يوماً بما يُفهم من كلامه تنصّلاً من اتفاقياتٍ وُقّعت بين بلاده وإسرائيل. كل ما قاله كان، ببساطة، إلزام تل أبيب بما وقّعت عليه، وبما يعترف العالم بأنه من حقوق بلاده، مثل الوصاية الهاشمية على المقدّسات الإسلامية في القدس (منذ عام 1924)، وهي سابقةٌ على قيام دولة إسرائيل نفسها، وقد نُص عليها في اتفاقية وادي عربة (1994). لذلك، مشابهة المسؤول الإسرائيلي الصفدي ببن غفير ليست ظالمة وحسب، بل ومضللة أيضاً، وتقول إن ثمّة متطرفيْن على جانبي الصراع، وبإقصائهما يمكن التحرّك قدماً، وهذا ليس صحيحاً، فالصفدي يمثل سياسة بلاده، وهي على اعتدالٍ لا يتعارض مع جذريّتها، والتراجع عن هذه السياسة، كيلا يُتهم الممثلون والمدافعون عنها بالتطرّف، يعني إخلاء الساحة للتطرّف في الضفة الأخرى للصراع، أي بن غفير وأشباهه، وهم أغلبيةٌ في حكومة نتنياهو.
وفي الحقيقة، تعكس تصريحات الصفدي موقفاً يقظاً ويتطوّر، وإنْ بحذر، تجاه إسرائيل، فلأول مرة يجد صنّاع القرار في عمّان أنفسهم أمام خياراتٍ صعبةٍ، قد تدفعهم إلى قراراتٍ خشنة، ولكنهم لا يفضّلون تبكير المواجهة ما دامت الإجراءات الإسرائيلية محلّ سُخط دولي، وليس عليها إجماع رسمي في تل أبيب نفسها ظاهرياً على الأقل، وبالإمكان كبحها من دون أن يتحوّل الأردن إلى طرفٍ داخل المعادلة الإسرائيلية، بمعنى دعهم يتخبّطون ليخطئوا أكثر، ما داموا لم يتجاوزوا الخطوط الحمراء فعلاً.
يترافق الحذر المعلن مع استعداد للأسوأ، فلا يشغل دوائر القرار الأردني، أخيرا، شيءٌ قدر الاستعداد للخطوة المقبلة التي يتخوّف كثيرون من أنها لن تترك للمعتدلين خيارا سوى أن يتطرّفوا. وفي حالة الأردن، ما يُوصَف بالتطرّف هو دفاع عن النفس والسيادة والالتزامات الدولية، فأن تكون البلاد جزءاً من إسرائيل في خريطةٍ تُوضع خلف وزير إسرائيلي على رأس عمله فهذا إعلان حرب. وأن يُقال إنه لا يوجد شعب فلسطيني من الأساس فهذا يمسّ جذر الصراع والرواية العربية له، والأردن في مقدّمتها، وهو ما يفسّر استحواذ المسألة على مشاغل النخب في عمّان، فماذا علينا أن نفعل إذا تجرّأ الإسرائيليون على آخر الحواجز التي كنّا نظن أن اتفاقية السلام قد نصبتها أمامهم؟
يريد البرلمان الأردني طرد السفير الإسرائيلي من عمّان وصوّت على ذلك، وثمّة نداءات بإلغاء اتفاقية وادي عربة، وهي دعواتٌ شعبيةٌ تتزايد. وللمرّة الأولى، يشعر الساسة في الأردن بأن بلادهم مستهدفة بشكلٍ مباشر أو تكاد، وأن عليهم وضع كل الخيارات على الطاولة. ومنها التلويح بخيار الدولة الواحدة، وهو يؤلم إسرائيل أكثر من الفلسطينيين والأردن، ولكنه خيار يُطرَح بشكل غير رسمي. إضافة إلى التأكيد على التمسّك باتفاقية وادي عربة التي يقوّضها الإسرائيليون، أي بناء مقدّمات تقول إن عمّان ظلت متمسّكة بالاتفاقية حتى النهاية أمام المجتمع الدولي الذي عليه أن يكون مسؤولاً عن عدم انهيارها في حال هُدّدت، وهي مهدّدة فعلاً.
لا يريد الأردن الحرب ولا يسعى إليها، ولكنه يجد نفسه أمام استحقاقاتٍ صعبةٍ في ظل تحوّلات دولية وإقليمية عاصفة، وفي مرحلة التشكّل، ولا يريد أن يدفع ثمنها، ولا يريد، في الوقت نفسه، أن يتخلّى عن دوره ولا عن مواقفه، ولا يملك ترف ذلك، وهو يعرف أن أي تراجعٍ يعني ضرب الأردن، وليس مجرد التلويح باستهدافه من أقليةٍ متطرّفة في تل أبيب، فالتطرّف هناك لم يعد ممثّلاً في وزير أو اثنين، بل إن بنية الدولة هناك تتغيّر وتنزاح نحو التطرّف المتوحش الذي قد يتحوّل إلى توسّع عدواني. وإذا حدث هذا، سيكون الهدف الأردن ووجوده، والحال هذه فقط سيكون محقّاً وصف الصفدي بين غفير، عندما يصرح بحقيقة موقف بلاده وشعبها.