بنادق أفريقية لمشكلاتٍ سودانية
ظلّ رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فكي، يردّد دوماً رغبة القارة في تنفيذ حلول أفريقية لمشكلات أفريقية، في محاولة لمجابهة النفوذ الأجنبي في المنطقة. لكن ذلك ظلّ مجرّد شعار يعجز عن التحقّق، فالاتحاد الأفريقي يتلقّى أغلب تمويله من خارج القارّة، كما أنه يعجز عن التأثير الدبلوماسي، بعكس تأثير دول غربية ومنظّمات دولية في مشكلات المنطقة... ظهر ذلك في الأزمة السودانية منذ تعثّر المفاوضات بين الجيش السوداني (الحاكم) وقوى الحرية والتغيير في 2019. فرغم تقدّم الاتحاد الأفريقي للوساطة بين الطرفين، كان للسفارات الغربية وللولايات المتحدة الدور الأكبر في الضغط على المجلس العسكري للتوقيع على الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية. ثم عقب تكوين بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان (يونيتامس) أصبح لها الدور الأكبر في توجيه عملية الوساطة بين المدنيين والعسكريين، مع وجود الاتحاد الأفريقي و"الإيغاد" على هامش العملية.
عقب اندلاع الحرب في 15 إبريل/ نيسان 2023 تعاظم دور الاتحاد الأفريقي و"الإيغاد"، لكن مع دعم أميركي وسعودي ودولي واضح. يبدو أنّ المجتمع الدولي قرّر إدارة الأزمة السودانية عن طريق الاتحاد الأفريقي، هرباً من نفوذ روسيا في مجلس الأمن، فقد ظلّت روسيا دوماً تقف أمام القرارات الحاسمة من مجلس الأمن تجاه المنطقة، في محاولةٍ لتحجيم النفوذ الغربي لفتح المجال لشراكاتٍ تعقدها مع الأنظمة الأفريقية المتضجّرة من الانتقادات الغربية.
في اجتماع لجنة "الإيغاد" المنعقد في 10 يوليو/ تموز الجاري، بدا واضحاً أنّ الدول الأفريقية تتعامل مع أزمة السودان كحريق في أرض خلاء، فلم تتم تلبية طلب الجيش السوداني تغيير رئاسة كينيا اللجنة الرباعية بدولة أخرى. وجرى التعامل مع الطلب بالتجاهل ذاته الذي تعاملت به الأمم المتحدة مع طلب تغيير مبعوث الأمين العام فولكر بيرتس، بشخص آخر، ما دفع الخارجية السودانية إلى التهديد بالانسحاب من عضوية "الإيغاد"!
قمّة "الإيغاد"، ثمّ تلتها قمّة القاهرة لدول جوار السودان أول من أمس (13 يوليو/ تموز) ركّزتا على أضرار الحرب في دول الجوار والمنطقة. هذا الخط الذي ينظر إلى حرب السودان بمقدار ما تؤذي المنطقة يبرّر التدخّل العسكري بغضّ النظر عن موافقة الخرطوم، فبعد اقتراح تدخّل قوات الاحتياط الأفريقية رفضت الخرطوم نشر القوات الأفريقية ونزع سلاح العاصمة. ولكن ذلك لا يبدو أنه نهاية الأمر.
من العسير النظر إلى قمّة "الإيغاد" إلا كخطوة لطرح مسألة التدخّل العسكري الأفريقي في السودان. وهي خطوة تحتاج موافقة دول الجوار، أكثر من موافقة الخرطوم، وهو ما مهّدت له قمّة القاهرة. وقد يبدو هذا التدخّل العسكري الأفريقي "المحدود" حسبما يراد له حلاً لفض الاشتباك بين القوات المتقاتلة، لكنه بالتأكيد يحمل مشكلات أخرى في طياته، فهو سيؤدّي إلى تدويل الصراع في السودان بشكل أسرع، وسيُحدِث انشقاقاً عميقاً داخل المجتمع السوداني والطبقة السياسية، بل ربما داخل المؤسّسة العسكرية ذاتها، فإذا قرّر الاتحاد الأفريقي تجاوز الخرطوم والدفع بقوات حفظ سلام وتحديد منطقة منزوعة السلاح وحظر طيران، فهذا سيدفع الخرطوم إلى المواجهة. وبحسب تجارب الجيش السوداني في إدارة الحرب الحالية وإدارة الدولة منذ إبريل/ نيسان 2019، يمكن التكهّن بأنها ستكون مواجهة مفتوحة لا تعقّل فيها، وستتعامل مع القوات الأفريقية قوات غازية.
من المقلق أنّ كلّ إشارات المجتمع الدولي حتى هذه اللحظة تقود إلى أنه فقد الأمل في استجابة طرفي الصراع لكلّ دعوات وقف إطلاق النار، فحتى في هدنة عيد الأضحى (26 يونيو/ حزيران – 1 يوليو/ تموز) كان المجتمع الدولي يبذل جهده للضغط على المتحاربين للالتزام بوقف إطلاق النار من دون جدوى. أعقب ذلك اتجاهٌ واضحٌ لإجبار الطرفين على وقف القتال وبدء عملية سياسية، وهو أمر لا يبدو هيّناً، رغم إعلان الجيش والدعم السريع الموافقة على بيان قمّة القاهرة.
في الأسبوعين المقبلين، ستظهر جليّة نتائج قمّتي "الإيغاد" والقاهرة. هل ستتعامل مع الأزمة عن طريق مزيد من الضغوط، أم ستّتجه إلى العمل العسكري، فبحسب ما ذكر ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، فقدت دول المنطقة الثقة في النظام في الخرطوم، ما يدعم الخيار المؤسف لاتجاه الاتحاد الأفريقي إلى تجاهل رضا الخرطوم عن تحرّكاته لوقف الحرب.
يبدو خيار التدخّل العسكري الأفريقي خياراً درامياً، فبقدر ما هو مؤسفٌ ومؤذٍ، بقدر ما تسرع إليه الأمور. ولا يبدو أنّ عاقلاً في الخرطوم أو الاتحاد الأفريقي أو المجتمع الدولي راغب في تفاديه.