بلدٌ يشكو من مرض سياسي عُضال

17 يوليو 2021
+ الخط -

يتابع المرء بمشقةٍ وجدانيةٍ "التطورات" المتسارعة التي يعرفها لبنان، والتي تلتقي حول انهيار متسارع للدولة وللعملة الوطنية، وتآكل الرواتب والمداخيل، وانقطاع واردات أساسية تشمل الدواء والغذاء والكهرباء، وعجز مرافق الدولة عن القيام بمهامها مع شكاوي عامة وعارمة واحتجاجات متقطعة يتم قمعها بقسوة، ومنها الاحتجاجات على تعثر التحقيق في انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بأكثر من مئتي ضحية وعشرات المصابين والمساكن والمحال التجارية، والذي تقترب ذكراه الأولى في 4 أغسطس/ آب. وقبل أيام، رفض وزير الداخلية طلب قاضي التحقيق استدعاء مدير الأمن العام، عبّاس إبراهيم، بما يضع عملياً عقبات أمام التحقيق.

يكمن مصدر المشقّة في تناول الوضع اللبناني بالتأسّي على حال هذا البلد العربي الفريد الذي كان يفاخر أهله به، ولهم ملء الحق في ذلك، وكان يجتذب إليه ما لا يُحصى من الزوّار والطلبة والمستثمرين وطالبي العلاج من شتى الدول. وكانت تزدهر فيه الطبقة الوسطى، وينقل نجاح أبنائه إلى الخارج ودول الاغتراب في القارات الست. بينما تزداد هذه الأيام مظاهر البؤس الاجتماعي وانعدام اليقين وارتفاع التوترات الاجتماعية والعائلية والفردية، بمختلف أشكالها، وذلك في انحدارٍ متواصل نحو الفشل والإفلاس، في ظل أزمةٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ لا يرغب الحاكمون والمتنفّذون في وضع حدٍّ لها، خشية فقدان امتيازاتهم المادية والمعنوية. بما يجعلها واحدة من أسوأ الأزمات التي يعيشها عالمنا منذ 150 عاماً، على حد وصف وارد في تقرير حديث للبنك الدولي. أما صحافة لبنان والمواقع الإلكترونية ومنصّات التواصل فتحفل بسوداويةٍ بالغةٍ تندب البلد الذي ينهار، وتتفجّع على انعدام فرص الحلول وعلى الطرق المسدودة، وعلى الرغبات المعلنة بالهجرة في وقتٍ يغلق فيه العالم أبوابه مع انتشار وباء كورونا، وما رافقه من تضرّر اقتصادي، وعلى الأسوأ الذي ينتظر البلد إذا ما استمر الأمر على هذه الحال.

سوداويةٍ بالغةٍ تندب البلد الذي ينهار، وتتفجّع على انعدام فرص الحلول وعلى الطرق المسدودة

وتتبدّى الأزمة السياسية، في مستواها الظاهر، بإصرار رئاسة الجمهورية على تشكيل حكومة ضمن الصيغ المعهودة التي تتوزّع فيها الحقائب الوزارية على الطوائف والأحزاب الفاعلة. فيما ظل رئيس الحكومة المكلف، سعد الحريري، قبل اعتذاره أول من أمس، يتمسّك بتشكيل حكومة اختصاصيين غير حزبية، وذلك انسجاماً مع مطالب ثورة 17 تشرين الأول الشبابية، ومع مقاربات لأطراف دولية رئيسية ممثلة على الخصوص بفرنسا والولايات المتحدة، إلى أطراف عربية تدعم هذا التوجه. وإذ يتلقى رئيس الجمهورية، العماد ميشال عون، دعماً من التيار الوطني الحر (أسّسه عون نفسه ويقوده حالياً صهره جبران باسيل) ومن حزب الله، فإن صورة التحكّم الحزبية، مقترنة بسلاح حزب الله ومؤسّسات هذا الحزب، تكشف عن الهوية الفئوية للحكم. ومع إعداد هذا المقال، كان الحريري قد عرض تشكيلةً حكوميةً على الرئيس عون، ثم اعتذر عن المهمة، بعد رفض عون الاستجابة لعرض الحريري الذي أمضى حتى تاريخه تسعة أشهر في هذه المهمة الشاقّة.

وإلى ذلك، ترفض هذه القوى الثلاث إجراء انتخابات نيابية مبكرة، أو تعديل قانون الانتخاب بما يجعله أكثر تمثيلاً وأقلّ طائفيةً، وهو مطلب أساسي حملته ثورة تشرين. ويكمن سر الرفض في أن هذه القوى ترى في تركيبة المجلس الحالي ما يضمن تصعيد رئيسٍ جديدٍ للجمهورية، ترضى عنه هذه القوى التي لا تخفي أن مرشّحها المفضل هو جبران باسيل الذي تصفه مصادر دبلوماسية وإعلامية عدة بأنه من أكثر المتنفذين الذين يحظون بكراهية عامة في صفوف اللبنانيين. ومن المقرّر أن يجري هذه الانتخابات في ربيع عام 2022 مجلس النواب الذي ينتخب مرشحاً من بين أعضائه، أو من خارج المجلس.

وتنشط في الأثناء دول عربية، من بينها السعودية وقطر ومصر، في الدفع نحو تشكيل حكومة مقبولة شعبياً لا ترتهن للأحزاب وزعماء الطوائف، أو أن يبقى لبنان في ما يشبه عزلة عربية. وثمة اتفاقيتان سابقتان بين الفرقاء اللبنانيين تحملان اسمي الطائف والدوحة، غير أنهما انتهتا على أرض الواقع، ومنذ وصول عون إلى سدة الرئاسة في عام 2016، الى تضييق دائرة الحكم التمثيلية، وإلى إطلاق يد حزب الله في تقرير ما يراه مناسباً له من أمور السلم والحرب، ومن بناء دولةٍ ذات مؤسّسات ومرافق بديلة داخل الدولة. وسبق لهذا الحزب أن لوّح بحربٍ أهليةٍ ينتصر فيها، إذا ما تمسّكت ثورة تشرين بمطلب نزع التركيبة الطائفية عن الدولة اللبنانية.

لم يعد أمام اللبنانيين سوى أن يبادروا إلى إنقاذ وطنهم قبل أن ينزلق وطنهم الجميل إلى المجهول ــ المعلوم

وعلى الصعيد الدولي، فإن الاتحاد الأوروبي، بغالبية أعضائه، ومعه الولايات المتحدة، يبحث هذه الأيام عن إطار قانوني لفرض عقوباتٍ على مسؤولين لبنانيين يرى أنهم متسبّبون بالأزمة الطاحنة، ويرفضون كسر الجمود الذي يُطبق على الحياة السياسية. فيما تُبدي الصين، ظاهراً على الأقل، اهتماماً ضعيفاً بهذه الأزمة، ربما بانتظار ما سيؤول إليه حال التداعي المتسارع، فيما تبدو روسيا أقرب إلى مواقف حزب الله. وسبق أن لوّحت فرنسا بهذه العقوبات، لكن غالبية الفاعلين، كما يبدو، مطمئنون لأوضاعهم وامتيازاتهم في جميع الأحوال.. فإما هم أو الانهيار التام. وقد شاع في هذا البلد أن كبار المتنفذين قد نقلوا ودائعهم المالية إلى "ملاذات آمنة"، مع الانهيار الذي أصاب قيمة الليرة اللبنانية، منذ مطلع العام الجاري، في وقتٍ تم فيه ويتم من طرف المصارف التضييق على صغار المودعين. وعليه، لا يبدو مستغرباً أن تلتقي كثرة من اللبنانيين على وصف دولتهم بـ" الفاشلة" وبلدهم بـ"المنكوب" (يفوق الدين العام 85 مليار دولار، وبما نسبته 150% من الناتج العام). وحين خاطبت مجموعاتٌ لبنانية الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال زيارته بيروت عقب انفجار المرفأ، أن يعيد الانتداب الفرنسي إلى بلدهم، فقد جاء هذا المطلب الفانتازي ليعكس سوء الأوضاع وتدهورها المريع واليأس المطبق، ويبثّ رسالةً مفادها بأن الأحوال الراهنة السائدة أسوأ مما كانت عليه في سنوات الانتداب قبل نحو قرن.

والمؤلم، في غمرة ذلك، أن دول العالم، بما فيها دولنا العربية، أصبحت أكثر انغماساً في شؤونها الوطنية، وأن لدى أغلبها من المشكلات والصعوبات الداخلية ما يصرفها عن الاهتمام الجدّي بمشكلات الأشقاء، كما اضمحّل دور جامعة الدول العربية، وأن مركز لبنان المصرفي والتعليمي والطبي والسياحي قد تراجع خلال ربع القرن الماضي، وسط منافسة عواصم عربية وإقليمية، وأنه لم يعد أمام اللبنانيين سوى أن يبادروا إلى إنقاذ وطنهم قبل أن ينزلق هذا الوطن الجميل إلى المجهول ــ المعلوم.