بطل رغم أنفه .. جورج قرداحي مثالاً

09 نوفمبر 2021

صورة جورج قرداحي في ميدان في صنعاء (31/10/2021/فرانس برس)

+ الخط -

وفق ما تقوله لنا الروايات التاريخية، وما تحتفظ به الذاكرة الغضّة من سير وحكايات قادة في زماننا الراهن، فإن الرجال الأفذاذ هم من يصنعون أقدارهم بأنفسهم، يكتبونها بجدّهم واجتهادهم، يأخذون زمام المواقف بأيديهم، يجاهرون بآرائهم، يتقدّمون الصفوف، يخاطرون، يثابرون وينتزعون الأدوار بجدارة، لا يخشون في الحق لومة لائم، يواجهون التحدّيات باقتدار، كونهم يمتلكون إراداتٍ لا تعرف الكلال، ويتمتعون بكاريزمية وخاصيات شخصية ملؤها رباطة الجأش، تماماً على نحو ما تقصّه علينا نماذج قيادية ملهمة وحاضرة بقوة في المخيال العام.
وفي المقابل، هناك "أبطال" مصادفةٍ طارئةٍ تصنعها الأقدار العمياء، وتنتجبهم المصادفات، وتجعل منهم أبطالاً رغم أنوفهم، وقد تجعل منهم رموزاً يُشار لها بالبنان، على الرغم من افتقار أولئك للمؤهلات، وخلو سجلاتهم من المآثر والمكارم والمواقف التي ترفع المقام، تطوّب الزعامة وتُعلي شأن امرئٍ من عامّة الناس، ناهيك عن سوابق الانتهازيين وصائدي الفرص بالمجّان، وحدّث ولا حرج عن وارثي الثروات والمناصب والألقاب، ممن يتكاثرون كالفطر في شتّى المجتمعات، تماماً على نحو ما يغصّ به المجال العام في بلاد شاع فيها قول "لكل مقام مقال ولكل دولة رجال".
أحسب أن هذا الاستهلال كان ضرورياً قبل الولوج إلى شأن رجل اسمه جورج قرداحي، أتى من هامش الهامش السياسي اللبناني، خالي الوفاض من أي موقف أو وقفة تُذكر له، سواء في صفوف المعارضة أو الموالاة في البلد الصغير. جاء إلى الحياة السياسية بدون استحقاق نضالي، وربما من غير انتماء حزبي، وحتماً بلا مؤهل فكري أو تجربة تنظيمية، أو غير ذلك من المقوّمات القادرة، موضوعياً، على حمل شخصٍ ما، بلا رصيدٍ سياسي معتبر، إلى سنام المسؤولية العامة في ساحةٍ مفتوحةٍ، على ضيق مساحتها، أمام كبار اللاعبين الإقليميين بمصائر شعبٍ انزلق عن حافّة الهاوية، وبات نهباً لحكم المليشيا وتجار الكبتاغون.
حالة ليست فريدة حقاً من نوعها في بلد الغرائب والعجائب اللبنانية (الديمقراطية التوافقية والأمن بالتراضي والثلث المعطل)، حالة وضعت مقدّم برنامج مسابقات تلفزيوني، لا خبرة إدارية أو سياسية أو رصيد يعتدّ به، في منصب وزاري هام، وفي أحرج وضع تمرّ به المحاصصات الطائفية والفساد المقونن، وإذا بمقدّم البرنامج الشاطر، الذي دخل القصر يوم أمس العصر، يكسر عصاه في أول ضربة، يثقب السطح بجملةٍ، ويُحدث عاصفة عاتية في علاقات بلاد الأرز مع دول الخليج العربي، سيما مع السعودية، ثم تأخذه العزّة بالإثم، يرفض الاستقالة ويكابر، إلى أن تصبح الحبّة قبّة، وتصير الشرارة حريقاً، ويجرّ البلد المأزوم إلى أزمة أخرى، كانت حكومة لبنان، وهي صاحبة شعار النأي بالنفس، في غنىً عنها، خصوصا مع اشتداد وتيرة الانهيار على كل الأصعدة، وتطلّع الناس إلى كل مساعدةٍ خارجيةٍ ممكنة، سيما من دول الخليج.
وهكذا وجد مقدّم برنامج "من سيربح المليون" نفسه، فجأة، في موضعٍ لم يسع إليه من قبل، وتحوّل المذيع المشهور، بين عشيةٍ وضحاها، إلى بطل همام في أعين المهللين لسياسات إيران التوسعية، الذين أغدقوا عليه الأوصاف والألقاب التعظيمية، ثم ألبسوه على الفور ثوباً ليس له، بل وأكبر من مقاسه بكثير، إلى الحد الذي بدا فيه قرداحي بطلاً بالمصادفة، إن لم نقل قائد حركة تحرّر وطني مهاب، وصاحب قلب شجاع، يقعقع لأعدائه بالشنان، وغير ذلك من المسميات التي أدارت رأس جورج وأطارت النوم من عينيه، وهو يتساءل في سرّه "هل أنا هو من يتحدّث القوم عنه بكل هذا الإطراء؟".
وأحسب أن الرجل الآتي من فضاء الإعلام، ولم يشتغل يوما في المجال السياسي، قد أدهشه احتفال الحوثيين به أيما احتفال، هؤلاء الذين كافأوه بإطلاق اسمه على شارع في صنعاء كان اسمه شارع الرياض، في محاكاة لنظام الملالي، الذي سمّى شارعاً في طهران باسم خالد الإسلامبولي كيداً بمصر، وآخر باسم نمر النمر انتقاماً من السعودية، غير أن أثمن مكافأة حصل عليها "فتى محور الممانعة الأغر" تمثلت في تبنّي حزب الله موقفه، ورفض هذا الحزب، القابض على رقبة البلاد والعباد، أي دعوة إلى استقالة هذا الوزير الممانع من الحكومة التي لم تلتئم سوى مرة أو مرتين، وبالتالي تعميده رمزاً لامعاً في السجال الداخلي المحتدم بين الدويلة المدجّجة والدولة المتهرئة، وربما رأس حربةٍ لتقويض ما تبقى من مؤسّسات، لاستكمال عملية خطف لبنان.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي