"بريكس" والرد على "السبع الكبار"
بدأت المشاورات بين روسيا والصين والبرازيل والهند منذ 2006 بخصوص الموقف من السيطرة الأميركية على المؤسسات الدولية والبنك الدولي ومجلس الأمن، وضرورة أن تغيّر الدول الصناعية العظمى من سياساتها، وتستوعب مطالب الدول النامية، كالهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وسواها، بالتمثيل بالمؤسّسات السابقة، وباستمرار هذه المؤسّسات بآلياتها ذاتها، انبثقت مجموعة البريكس في 2011. إذاً هناك تفكير قديم من الدول المتضرّرة بمواجهة الهيمنة الأميركية.
في الأيام الأولى من شهر يونيو/ حزيران الجاري، عُقِدَ لقاء وزاري في جنوب أفريقيا، لمجموعة بريكس، تحضيراً لاجتماع رؤسائها في أغسطس/ آب المقبل (الصين، روسيا، الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا) وعلى طاولة البحث: توسعة المجموعة، والتفكير بعملةٍ دوليةٍ جديدة، واستخدام العملات المحلية في التجارة بين هذه الدول. هناك أيضاً 16 دولة تودّ الانضمام، وهي من قارّات مختلفة، ومنها 13 دولة، تقدّمت بطلبٍ رسمي، ومنها عدّة دول عربية. هذه أحداث بالغة التأثير في العلاقات الدولية؛ قبل أيام اجتمع قادة منظومة السبع الصناعية الكبار في اليابان، وأصدروا بيانات إدانةٍ لروسيا وتحذير الصين من "الإكراه الاقتصادي" وتهديدها أمن المحيطين، الهندي والهادئ، وتايوان، وقد أبدت بكين استياءً شديداً واحتجّت رسمياً لدى الدول السبع.
أهم وأخطر ما تواجهه الولايات المتحدة حالياً قضية العملة الدولية البديلة بين منظومة البريكس
منظومة البريكس اقتصادية بشكل أساسي، وهناك اتفاقيات سياسية وأمنية وثقافية فيما بين دولها. الأحداث العالمية ما بعد كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، والخلافات التجارية والاقتصادية الكبيرة بين الصين وأميركا، تدفع إلى انتهاج سياسات أكثر تشدّداً ضد الهيمنة الأميركية على العالم. أهم وأخطر ما تواجهه الولايات المتحدة حالياً قضية العملة الدولية البديلة بين منظومة البريكس، والتي تضع لنفسها هدفاً للسيطرة على العالم في 2050، وهي تشمل أكثر من 40 % من سكان العالم، وأصبح الناتج الإجمالي العالمي لها "31 %" وأكبر من مجموعة السبع "30 %". الصعود الاقتصادي لهذه المجموعة يَظهَر من خلال أن دولها الأساسية تعدّ من الدول النامية والصناعية، ومستاءة للغاية من استخدام الدولار عملة دولية للتجارة، ومن شروط البنك الدولي للإقراض، وهناك تحدّيات المناخ. ولهذا تمَّ الاتفاق على تشكيل بنك "التنمية الجديد" في 2015، وهناك بنك للاحتياط في الصين أيضاً، بقصد إعانة الدول المنهارة اقتصادياً، وهناك منظمة شنغهاي المهمة.
للتصريحات المتشدّدة الأخيرة لمجموعة السبع ضد روسيا كل الأسباب. أمّا التصريحات ضد الصين، فتعني أن أميركا بصفة خاصة تشعر بالخطر الحقيقي، وليس هامشياً قول رئيس وزراء بريطانيا، وهو أبرز حليف لواشنطن، في الاجتماع "إن الصين هي التحدّي الأكبر في عصرنا" وكذلك تغيير الولايات المتحدة سياساتها الأمنية الاستراتيجية باتجاه الصين ومنذ أكثر من عقد. ويشار إلى هذا بنقل أولوياتها من الشرق الأوسط إلى آسيا وتشكيل أحلاف عسكرية جديدة (أوكوس) مناهضة للصين.
يشكّل تعافي الاقتصاد الصيني، وضخامة القطاع الصناعي فيه، وضرورة إمداد السلاسل التجارية الدولية مع أوروبا خصوصا، حاجة ماسّة لأوروبا
يأتي اجتماع وزراء بريكس بلحظة مفصليةٍ في العلاقات الدولية، فالخلاف بين روسيا والصين من ناحية وأميركا وبريطانيا واليابان، وإلى حدٍ ما الاتحاد الأوروبي في غاية التصعيد. مشكلة مجموعة السبع أنّها تتعرّض لأزمة اقتصادية شديدة "التضخّم فالانكماش فالركود"، وتابعها العالم من خلال رفع سعر الفائدة في أميركا ولحقت بها أوروبا ودول الخليج ودول كثيرة، وكذلك من خلال انهيار مجموعة من البنوك وإفلاس شركات عديدة وارتفاع نسب البطالة، وأخيراً هناك خلافات تتعلق بالثورة التقنية الجديدة التي يقودها الذكاء الاصطناعي، وتختلف حول التعامل معها كلٍّ من الصين وأميركا كذلك. تؤكد الإدارة الأميركية ومنظومة السبع على الإكراه الاقتصادي للصين، أي فرض ضرائب متشدّدة على وارداتٍ اقتصادية من أستراليا وكوريا الجنوبية مثلاً، المتحالفة مع أميركا، ولكن "حرب" الضرائب تتصاعد بين أميركا والصين، وإن كانت أقلّ حدّة بين أوروبا والصين، بل وإصرار أوروبا على الاستمرار بعلاقات اقتصادية واسعة معها.
يشكّل تعافي الاقتصاد الصيني، وضخامة القطاع الصناعي فيه، وضرورة إمداد السلاسل التجارية الدولية مع أوروبا خصوصا، حاجة ماسّة لأوروبا، وكذلك لحركة رؤوس الأموال من أوروبا وإليها؛ الإدارة الأميركية، ورغم التصعيد ضد الصين فإنّها تسعى إلى عدم تأزيم العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية معها.
تسعى مجموعة البريكس إلى علاقات اقتصادية بين دولها، وهناك دول جديدة ستدخل إليها، وهي من الحلفاء السابقين للولايات المتحدة، وهذا يشكّل خطراً متصاعداً على الهيمنة الأميركية على العالم. من الخطأ النظر إلى "بريكس" من الزاوية الاقتصادية فقط؛ فدول المجموعة هذه "الخمس"، لم تُدِنْ غزو روسيا أوكرانيا في الأمم المتحدة، ودول كثيرة أيضاً. حدث التصويت في مجلس الأمن أو الأمم المتحدة. وبالتالي، يحدث علانية، وليس عبر اتفاقياتٍ سرّيّةٍ، تقيمها روسيا أو الصين مع تلك الدول، وهذا يوضح أنّ هناك تغيّرات كبرى تجري تباعاً، وتستهدف بالفعل تعزيز نظام اقتصادي عالمي جديد ومتعدّد الأقطاب.
هناك دول ديمقراطية في مجموعة البريكس (الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا) وستنضم دول ديمقراطية جديدة
فجّرت حرب روسيا على أوكرانيا الخلافات بين الدول الكبرى، ولكن أزمة العلاقات الدولية، المهيمَن عليها أميركياً، سابقة لها، وتصاعدت بعدها، والآن تفرض مجموعة السبع عزلة دولية خطيرة ضد روسيا، بينما ترفض مجموعة البريكس تلك، وتعمل من أجل علاقات دولية جديدة، أساسها الأمن وازدهار العالم. هناك دول ديمقراطية في مجموعة البريكس (الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا) وستنضم دول ديمقراطية جديدة. وبالتالي هناك تنوع في الأنظمة السياسية للبريكس، وكذلك في الأنظمة الاقتصادية، ويتم ذلك تحت "الهيمنة" الصينية، باعتبارها الأكثر تقدّماً، ولديها مشاريع دولية للسيطرة على العالم اقتصادياً "طريق الحرير الجديد، أو مبادرة الحزام والطريق". وبالتالي، وفي الوقت الذي تتشدّد فيه مجموعة السبع ضد "الإكراه الصيني"، وضد الاستراتيجية الصينية بخصوص إعادة تايوان مستقبلاً، والحدّ من العلاقات الاقتصادية معها، ولنقل ضبطها في حدود معينة، تستمرّ الصين في طريق الحزام والحرير ومجموعة البريكس وشنغهاي، وتمد نفوذها الاقتصادي إلى مختلف القارّات.
حدّدت مجموعة السبع الكبار، قبل أيامٍ، الأخطار الكبرى عليها، روسيا والصين اللتين لا تتوقفان عن تطوير العلاقات الثنائية، والمتعدّدة الأوجه فيما بينهما، والآن تتوسعان في مجموعة البريكس التي ستنضم إليها دول أخرى، وقد أصبح إنتاجها أكبر من مجموعة السبع الصناعية. وبالتالي، يتّجه العالم حثيثاً إلى نظامٍ عالميٍّ جديدٍ؛ فهل يمكن أن تتعايش مجموعة السبع الكبار مع مجموعة البريكس بقيادة الصين؟ يبدو الأمر كذلك، وباستثناء روسيا، ولكن الخلافات قابلة للتصاعد مستقبلاً.
أغلب الظن لن تُسلِّم دولة جنوب أفريقيا في أغسطس/ آب المقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمحكمة الجنائية الدولية، حيث هي عضو فيها، ولكن، وتفادياً لخلافاتٍ حادّة مع واشنطن قد يتم نقل اجتماع منظومة البريكس إلى الصين، أو تمثيل روسيا بغير قيصرها.