بدعة البحث عن الهوية السورية
عادت مسألة الهوية السورية إلى التداول، والسؤال عمَّا إذا كانت ضائعة فعلًا أم أنها لمَّا تتكون؟ وأن قوى سورية تبحث عنها منذ عام 2011.. الإجابة عن السؤال لا بد أن تمرَّ من خلال قراءة تاريخ سورية الحديث، أي منذ انفصالها عن الدولة العثمانية، نهاية الحرب العالمية الأولى، وحتى 2011، أي ما يقارب المائة وعدة أعوام. وفي إطار ذلك، لا بد من الإشارة إلى أنَّ ذلك التاريخ شهد ثورات أتى أغلبها على شكل انقلابات عسكرية أطلق أصحابها عليها اسم ثورات، وأنَّ بعضها جرى بدفع دولي أو إقليمي، وفي إطار الصراع على سورية الذي أخذ يشتدّ بعد الاستقلال، ومع تغيرات موازين القوى الدولية التي فرضتها نتائج الحرب العالمية الثانية، وترافقت مع بدء حالة نهوضٍ أخذت تظهر في المجتمع السوري.. وهناك الثورة السورية التي لم تحقق غاياتها بعد، وإنْ شكّلت حالةً من الوعي جلبتها إفرازات الربيع العربي، في إطار العملية الانقلابية على ذلك الاستبداد العسكري، والقمع الأمني اللذين تسبّبا بقطع التطور الطبيعي الشامل في سورية، وفرضا على مجتمعها حالة جمود اجتماعي على صعد السياسة والاقتصاد والثقافة، ما يفسّر ظاهرة الثورة التي جاءت انفجارًا شعبيًا، كما في كل من تونس ومصر وليبيا وسورية، فكانت ثورةً شعبيةً وعفوية. وجاء الرد عليها وحشيًا تجاوز كل عرف عسكري أو قيمة خلقية أو إنسانية، فكانت المجازر الرهيبة وقصف المدنيين العشوائي مع حملات الاعتقالات، إضافة إلى دعم نويَّات ثورات مضادّة مختلفة الأشكال، والأيديولوجيات، والفصائل العسكرية أخذت تمتد وتتسع.. وهكذا، فُرِض نوع من الترحيل العام الذي شمل المدن الكبرى وأريافها، مثل دمشق وحمص وحلب ودرعا وإدلب ودير الزور والرّقة، إضافة إلى قيادات معارضة تقليدية، بعضها موجود في الخارج أصلًا، أخذت تتشكّل فارضة نفسها على أسس مكوّنات تمثلها قوميات وأديان وطوائف وعشائر وفصائل عسكرية! وهكذا أخذت الهُويَّة السورية تُطرح من جديد، وكأنما يجرى اكتشافها لأول مرة.
إذا كان النظام يتحمّل المسؤولية الكبرى عما حصل في سورية، فإن المعارضة ليست بريئة
وهنا لا بد من العودة إلى تاريخ سورية غير البعيد، أي إلى النصف الأول من القرن العشرين، وما نشأ فيه من ثورات تحرّر وطني منذ اليوم الأول للاحتلال الفرنسي، إذ اندفع قادتها بحماسة وطنية، ودونما أية إيديولوجيا، بل بردٍّ عفويٍّ مباشر على المستعمرين الفرنسيين، يتطلعون إلى دولةٍ سوريةٍ مستقلة، بعد تراجع السمة القومية العربية التي انتعشت أواخر الدولة العثمانية، مع تنكُّر الإنكليز للوعود التي أعطوها للشريف حسين.
وعلى ذلك، نهضت الثورات في جهات سورية الأربع. وكانت امتدادًا للمواجهة غير المتكافئة بين مجموعات من المتطوّعين، يرأسها وزير الدفاع يوسف العظمة في موقعة ميسلون يوم 24 يوليو/ تموز عام 1920، ولتتجسّد تلك الثورات في ثورة موحّدة، لها قيادتها، وأهدافها تحت اسم الثورة السورية الكبرى عام 1925، ولتوقع خسائر جسيمة في الجيش الفرنسي، ولم تكن ردًا على الاحتلال فحسب، بل على ممارساته وتجاوزاته، وخصوصًا عندما قسَّم البلاد إلى ست دويلات. وعلى الرغم من أن الثورة تراجعت عسكريًا من عجز في تأمين السلاح، بعد أن قدّمت آلاف الشهداء.. لكنها كانت بوتقة انصهرت في أتونها معالم الهوية السورية التي لا يزال بعضهم يبحث عنها! ومنذ ذلك الوقت، كان صوت الشعب السوري، بأكثريته وأقلياته، واضحًا في رفضه عملية التقسيم التي اخترعها الفرنسيون! ويسجّل أكرم الحوراني، الشخصية السياسية المرموقة، في هذا الخصوص، مأثرة الشعب السوري ذات الدلالة، فيقول: "النضال الوطني لشعب سورية قد أخذ طريقه ضد الطائفية، التي اعتمد عليها الفرنسيون لتمزيق وحدة البلاد إلى دويلات، ففيما كانت دولة جبل الدروز تعلن عن رفض عزل الجبل في دويلة خاصة خارج نطاق الشام والعروبة، كانت سلطات دولة العلويين تجابه الوفود من سكان منطقة اللاذقية، الذين أعلنوا أنهم يريدون تغيير هوياتهم التي تنسبهم إلى دولة العلويين، وكان مكتب الكتلة الوطنية في حماة يستقبل العديد من وفود أبناء مصياف المطالبين بالوحدة، والرافضين لأن تكون المذاهب الدينية سبباً في تمزيق وحدة سورية" (مذكرات أكرم الحوراني ص 104).
يحاول بعضهم استبدال الحرية ودولة المواطنة في سورية بما تسمى المكوّنات، تحت بند رد المظالم
وإذا كانت سورية تفخر بشيء من تاريخها الوطني الحديث، فإن فخرها بتلك الثورات، وبالنضال السياسي الذي تبعها، وتكلّل بالاستقلال التام، ولتبدأ بعدئذ مرحلة البناء الداخلي، وترسيخ الحكم الوطني الذي كان يناضل على جبهتين، النضال الوطني متعدّد الأشكال سياسيًا واقتصاديَّا واجتماعيًا وثقافيًا، وجبهة أخرى خارجية تتلخّص بمواجهة الصراع على سورية التي أخذت تتجلى في الانقلابات العسكرية، وغايتها تمرير مشاريع أجنبية لهذا الطرف أو ذاك. وكان العالم آنذاك قد انقسم إلى قطبين، الاتحاد السوفييتي وأميركا.. وفي 25 فبراير/ شباط من عام 1954، تنازل أديب الشيشكلي عن الحكم، بعد أن تمرَّدت عليه قطع الجيش في عدة محافظات، وكانت يداه قد تلوثتا بدماء السوريين في محافظة السويداء، ولتجرى بعد ذلك انتخابات ديمقراطية، ويعود الحكم المدني الذي دام أربع سنوات، وصفت بالعصر الذهبي لسورية لتميَّزها بسمات إيجابية عدة، يمكن تلخيصها بما يلي:
تكرَّس النظام السياسي الجمهوري البرلماني في فضاء ديمقراطي منفتح على المجتمع والعالم، ووفق مصالح البلاد، ويسمح بتداول السلطة والفصل بين السلطات، وحرية تشكيل الأحزاب السياسية، وحرية الصحافة. ويذكر أن عدد المطبوعات المتنوعة بلغ 52 مطبوعة بين صحيفة ومجلة، منها 32 مطبوعة في حلب ودمشق. وحرية تشكيل النوادي والجمعيات الثقافية والاجتماعية. أما الاقتصاد فقد كانت تتسارع وتائر نموّه على نحو مذهل، إن في الزراعة أو في الصناعة، فقد ازداد الدخل الوطني من 488 مليون دولار عام 1953 إلى 632 مليون دولار عام 1957 بمعدل نمو سنوي وسطي قدِّر بـ 4.7% وتفيد الإحصاءات بأن نصيب الفرد من الدخل الوطني عام 1950 كان 102 دولار، ليرتفع إلى 134 دولارًا عام 1953، ومن ثم ازداد حتى 152 دولارًا عام 1957 بمعدّل سنوي وسطي%4.3... ومثل ذلك النمو، انسحب على ميادين الصحة والتعليم وواقع المرأة. وما كان لذلك النهوض أن يحصل، لولا وجود الحريات السياسية التي تعد مدخلًا لكل حرية فردية أو عامة. وفي عودة إلى الهوية السورية، لأقول: إن كلَّ شيء جميل ونافع يُفْتَقَد مع افتقاد الحرية التي ضيَّعها الاستبداد البعثي/ الأسدي.
اليوم، يحاول بعضهم استبدال الحرية ودولة المواطنة بما تسمى المكوّنات، تحت بند رد المظالم، لكن المكوّنات كما في لبنان والعراق قادت إلى مظالم وفساد وارتهان أكثر من أي استبداد آخر. الوضع السوري اليوم، مع الاحتلالات المختلفة، وتربُّص أطرافها الحذر، ومع تجاهل قرار مجلس الأمن 2254، أو إغراقه بأمور تفرّغه عن محتواه، إذا كان يتحمّل النظام المسؤولية الكبرى عن هذا، كما يتحمّل قطع ذلك النمو الطبيعي لسورية، فإن المعارضة ليست بريئة، وربما يحتاج إلى تجديد ثورة الحرية والكرامة التي فقدت زهوها وألقها.. فهل ذلك ممكن، أم أن الشعب السوري الذي عانى الويلات ينتظر أمورًا أشدّ قسوة ومرارة.