بحقّ السماء... ماذا تريد قناة العربيّة؟
صارت المذابح المهولة التي يًواظب على ارتكابها جيش العدوان في غزّة تتوازى مع فائضٍ من "الموضوعيّة" في تغطيات قناة العربيّة (وشقيقتها "الحدث")، قوامها عرض جميع زوايا الخبر، الأمر الذي لا يستقيم في أفهام القائمين على هذا العمل إلا بإبراز ما ينطق به المتحدّث باسم الجيش، عن وجود مسلحين إرهابيين في الموقع الذي استهدفه قصفٌ إسرائيلي، وأوْدى بحياة مائة غزّي أو أكثر أو أقلّ، قد يكونون نائمين في مدرسةٍ تحوّلت مركز إيواء، أو في أثناء تأديتهم صلاة الفجر، أو قد يكونون في خيامهم، وهم النازحون المشرّدون. ما من جريمة حربٍ مثل هذه تُرتَكب إلا وتلقى شاشة "العربيّة" شديدة الحرص على إخبارنا ببيانات الجيش الإسرائيلي، بمفرداته وصياغاته، بكثيرٍ من التأكيد عليها. وفي المقدور أن يعتبر واحدُنا هذا الحال "مهنيّةً" إعلاميّة، فمن الضرورة أن نعرف ما يقولُه أعداؤنا وما يبرّرون به جرائمهم، غير أن الذي يتّضح، وينكشِف، في مرّاتٍ صارت بلا عدد، أن "العربيّة" تفشل في تظهير البعد المهني المحض، عندما يتبيّن لك بيُسر أن ثمّة "هوىً" نافذاً في سياسة التحرير التي تتّبعها يرى مرويات الجيش المعتدي ذات صدقية، وأوْلى بأن يجري التعامل معها حقائقَ مؤكّدة. ولا يبدو هنا "اتهامٌ" من هذا العيار متزيّداً، فهذه سائر الفضائيات تنقُل إلى مشاهديها ما يتكلّم به المتحدّثون باسم هذا الجيش، بل ويحدُث أن تنقل على الهواء مباشرة المؤتمرات الصحافية لهؤلاء، لكننا لا نذهب إلى اتّهامها بشيء. ببساطةٍ، لأن ناقل الكفر في هذا الموضع ليس بكافر، فيما هو كافرٌ هناك.
عندما بدأت "العربية" بثّها من دبي، في مارس/ آذار 2003، في غضون الحرب على العراق، لقيت حماساً من نخبٍ عريضة، ومن جمهورٍ واسع، صدورا عن قناعة بأن الملعب الإعلامي يتّسع للجميع، ومن الطيّب أن تتنوّع الاجتهادات والمنظورات التحريرية في تقديم الأخبار والتقارير والبرامج. ثم صودفت على شاشة هذه القناة التي جاءت لتختلف، ولتكون "أعقل" من غيرها، برامجُ وتغطياتٌ على سويّةٍ من التميّز، وذات مهنيّة، وموشّاة بمواقف تحترمها، ولو اختلفتَ نسبيّاً معها في هذا التفصيل أو ذاك، غير أن مسار القناة أخذ يهبط إلى ما يثير الارتياب، أو أقلّه التحفّظ، في غير شأنٍ عربي. ولمّا بدا أنها تتبنّى رؤية شديدة العدائية للإسلام السياسي، قلنا إن لها الحقّ في انحيازاتها. وحتى عندما حلّ الربيع العربي بثوراته في مصر وغيرها، اتّصف بعضُنا بكثير من التسامح، وسوّغ لها اصطفافاتها. ولكن الذي صار يتبدّى أن ذلك الهبوط الملحوظ صار يذهب بالقناة إلى انتحارٍ مهنيٍّ مريع.
كل أرشيف القناة قبل حرب الإبادة في غزّة قضية والذي يُرى ويسمع على الشاشة في غضون هذه الحرب قضيةٌ أخرى. لم يكن متصوّراً أن تأكل نفسَها الفضائية العربيّة، التي صارت تبثُّ من الرياض، فتتشاطر مذيعةٌ منها مع خالد مشعل، عندما رضي بالظهور على هذه الشاشة، فتُخاطبه عن عيشِه في الفنادق وتحت المكيّفات. لم يكن متخيّلاً أن تنتقي القناة لتحاورهم في التعقيب على ملمّاتٍ في غزّة ضيوفاً مسفّين ضد المقاومة لتتيح لهم الكلام المعيب إيّاه. لا شيء من الحياء، ولا قليل من الأخلاق، عندما تجهَد، بمثابرة، بغرض إقناع مشاهديها، بمسؤولية حركة حماس عن جرائم الجيش الغازي.
لم يسرّنا، في سنواتٍ مضت، منع هذه القناة وإغلاق مكاتبها في قطاع غزّة، غير مرّة، بأوامر من وزارة الداخلية التابعة ل"حماس"، ردّاً على بثّ "أخبار مفبركة"، (أحدها عن عملاء في الحركة)، غير أن الكيل طفَح، في مذبحة مدرسة حي الدرج، السبت الماضي، وفي مذابح النصيرات ومواصي خانيونس وغيرهما، عندما انعدم الحسّ الأخلاقي، وغاب النضج السياسي، وعندما انتحرَت مواضعات الصنعة الإعلامية المحضة، واندفنت بديهيّات الصحافة وأعرافها. ثم صار سؤالاً من شديد اللزوم الجهر به عالياً، ما الذي تريده بالضبط قناة العربيّة، لا بالذي تفعله بنفسها فقط، بل أيضا بالذي تُريد أن تخرّبه في الوجدان العربي العام؟ أليس من حكيمٍ يُرشد القيّمين على هذه المحطّة إلى الفرق بين الموضوعية وقلة الحياء، بين التوازن في عرض زوايا الأخبار وانفضاح الانحياز إلى أعداء الأمّة المجرمين. لم يصرّح وزير خارجية السعودية، فيصل بن فرحان، مرّة بغير الإلحاح على وقف العدوان، وبغير تحميل إسرائيل المسؤولية عن الجرائم المشهودة، لكن البادي أن ثمّة رأياً آخر لدى القناة.
بحقّ السماء، ما الذي تريدُه قناة العربيّة بالضبط؟