بايدن وتبديل قوى فاسدة في الشرق الأوسط
لم يطرح الرئيس الأميركي، جو بايدن، حتى اللحظة، أيّة أفكار جديدة تخصّ القوى المتنافسة في الشرق الأوسط، علما أنّ لإدارته مسؤوليتها عن ملفات مزمنة وخطيرة في العالم، ويمكن لمحللين عديدين أن يتفقوا على أن سياسة الأمن القومي الأميركية منشغلة بتهديد الصين، نظراً إلى تجاوزها في نفوذها الاقتصادي والعسكري والمعلوماتي والسياسي الأميركي، وهو أكبر تحدٍ أمني خارجي للأميركيين. ويعدّ الحفاظ على الميزة الأميركية التنافسية ضد الصين المفهوم المهيمن في استراتيجية الدفاع القومي لعام 2018. ومن المتوقّع أن يستمر هذا في الإدارة الجديدة، ومن الصعب القيام بتنفيذ هذه الاستراتيجية في ظل الإدارة الحالية التي تبدو متراخية ضمن سلسلة من الزلات، وتشمل هذه الرغبة في المضي بمفردها، والتي تتميز بسوء معاملة الشركاء والحلفاء، ونقص عام في الترابط مع النهج العام.
الأمر المثير الآخر يتمثّل في منافسة القوى العظمى في الشرق الأوسط. وستحتاج الإدارة الجديدة إلى تجنب الوقوع في الأخطاء التي وقع فيها الرئيس أوباما، بمعية نائبه بايدن، قبل سنوات، وترك الشرق الأوسط ساحةً لعبث القوى الإقليمية الصغرى وتشكيلاتها من العصابات والمليشيات، وأكملتها تهوّرات ترامب. لقد باتت الضرورة ماسّة لصياغة استراتيجيات وسياسات واضحة، ليس لإبقاء الانفلات والعبث في شؤون كياناتٍ سياسيةٍ بذاتها في المنطقة، بل من أجل الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة الطويلة الأمد في المنطقة، وهذا لا يأتي إلا بتغيير العلاقات السائدة، وتحجيم نفوذ الدول الإليمية وقلع أنيابها، وتحجيم أدوارها، وتحقيق أهداف عديدة واقعية في الحفاظ على استقرار المنطقة، كي تبدأ حياتها الجديدة، فما هي أهم الضرورات؟
يجب أن تكون آليات التغيير في المنطقة حاسمة، وغير قابلة للمناورات والمراوغات، وغير مستلبة من هذا الطرف أو ذاك
أولاً، ضرورة تغيير سياسات المنطقة، والتعبير عنها بوضوح وشجاعة، وإنهاء القوى الإرهابية وكل الجماعات والعصابات والمليشيات والأحزاب الطائفية المنتشرة في كل من سورية والعراق ولبنان، وأن تبتعد الولايات المتحدة عن التمايزات في تصنيف الشعوب في الشرق الأوسط ومجتمعاته على أسس طائفية، وأن لا تشرك معها إيران في إيجاد حلولٍ تخص مجتمعات ودولا عربية لها شخصيتها القومية والوطنية، ولا يمكنها تقبّل عبث الآخرين بها! تطوير استراتيجية إقليمية توضّح أن الحفاظ على موقع التأثير في المنطقة يساهم في الحفاظ على الميزة التنافسية. وعلى الإدارة الأميركية وشركائها أن يفهموا بوضوح ما الذي يريده العرب في المنطقة، قبل أن يتقدّم عليهم الإيرانيون والأتراك والإسرائيليون.
ثانيا، يجب أن تكون آليات التغيير في المنطقة حاسمة، وغير قابلة للمناورات والمراوغات، وغير مستلبة من هذا الطرف أو ذاك، أي بمعني الحفاظ على استقلالية الدول في الإقليم، وأن لا يكون النهج الأميركي في التعامل مزدوج الأوجه في ممارسة "القوة الناعمة" مع هؤلاء واستخدام "القوة الصلبة" مع أولئك، واحترام جميع عناصر القوى الوطنية في هذه المنطقة، إذ يقع على عاتقهم أمر حيوي في إعادة التوازن، بعيداً عن السياسات اللئيمة التي أنتجت ضد المصالح العربية بالذات، فليس من العقل أو الإنصاف إنهاء "الحروب التي لا نهاية لها" مع طرف، وإبقاء العصابات والمليشيات القذرة في طرف آخر. إنها منهجية مجافية للأخلاق على حساب الحقوق العربية.
ثالثا: ليس مهمّا أن تبذلوا قصارى جهدكم لإعادة بناء العلاقات والشراكات في المنطقة على حساب ما تمّ تدميره وسحقه. المجتمعات العربية بحاجة ماسّة إلى أن تعاد الاعتبارات لها، وأن لا تتدخّل دول الإقليم في شؤونها، وعدم وجوب جعل العلاقات والشراكات حجر الزاوية في النهج الاستراتيجي الأميركي الشامل، على حساب إبقاء الفساد والتوترات الكامنة الأخرى في المنطقة.
قطع ترامب ثلاثمائة مليون دولار من التمويل المخصص لتعليم ما يقرب من نصف مليون طفل والتطعيمات والعيادات الصحية لثلاثة ملايين لاجئ فلسطيني
ما هي ضرورات العرب من الرئيس بايدن؟ خمسة أمور يمكن أن يفعلها بايدن ستُحدث فرقًا حقيقيًا في الشرق الأوسط:
أولا، على إدارة بايدن أن تعيد على الفور تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، إذ قطع الرئيس السابق، ترامب، ثلاثمائة مليون دولار من التمويل المخصص لتعليم ما يقرب من نصف مليون طفل والتطعيمات والعيادات الصحية لثلاثة ملايين لاجئ فلسطيني، وغير ذلك من أشكال الدعم الأساسية. هذه الأموال إجراءات ملموسة تنقذ الأرواح، وتشير إلى خروج عن سياسات ترامب الخبيثة.
ثانيا، على بايدن أيضًا إلغاء تجميد مائتي مليون دولار في تمويل الاستقرار في سورية الذي جمّده ترامب، فور إعلانه أن الولايات المتحدة ستترك سورية "قريبًا جدًا"، وتترك "لأشخاص آخرين يعتنون بها". وبالطبع، تم نقض هذا القرار، ولكن تعليق الأموال لم يتم، بينما كان التمويل الأصلي للشمال الشرقي، وهناك حاجة أيضًا لدعم لإدلب، حيث يتجمع ثلاثة ملايين شخص في ظروف مناخية قاسية، وينام بعضهم في العراء، حتى مع بقاء التسوية السياسية بعيدة المنال، يمكن عمل الكثير للتخفيف من حدّة الوضع هناك.
ثالثا، على بايدن أن يلتفت إلى العراق الذي يعاني الأمرّين منذ احتلته أميركا عام 2003، وينهي معاناة الناس القاسية، وهذه مهمة أخلاقية في السعي إلى الحدّ من نفوذ إيران في العراق، وإعادة إعمار مدينة الموصل المسحوقة، والتي تمّ تدميرها عن قصد وترّصد، وإعادة النظر في مشروعية النظام الحاكم الذي أشاع الفساد والتزوير والمحاصصات والتمايز الطائفي في العراق.
على فريق الأمن القومي التابع لبايدن منح الأولوية لكبح جماح إيران، واختراقاتها العراق ولبنان وسورية واليمن وغيرها
رابعا، على الإدارة الجديدة مراجعة ما يسمى فحص ترامب الشديد للاجئين وإلغاؤه، حتى بعد إلغاء "حظر المسلمين"، ويجب إلغاء عقبات عهد ترامب لتمكين اللاجئين من السفر بالفعل، واتباع سياسة نظيفة بعيدة عن التفرقة الدينية والعرقية والثقافية.
خامسا، على فريق الأمن القومي التابع لبايدن منح الأولوية لكبح جماح إيران، واختراقاتها العراق ولبنان وسورية واليمن وغيرها، فضلا عن إعادة تحديد العلاقة مع تركيا، بينما يبدو أن قائمة القضايا الخلافية تتزايد، فيما هناك ميزة عملية واستراتيجية لإعادة العلاقة إلى مسارها الصحيح، أو على الأقل بدء عملية هادئة لبدء تفريغ مجالات الخلاف الرئيسية من العراق إلى سورية إلى ليبيا، ويمكن أن تكون تركيا مُيسِّرًا مهمًا للمصالح الأميركية، أو عائقًا خطيرًا.
وأخيراً، من غير المحتمل أن يتم الانتهاء من هذه التوصيّة الأخيرة خلال أول مائتي يوم، ولكن يجب إطلاقها خلال هذا الإطار الزمني، نظرًا إلى تأثيرها على أولويات الشرق الأوسط.