بالأوبئة أيضاً يُباد الغزّيون
ما تحدّث عنه الجنرال المتقاعد في الجيش الإسرائيلي غيورا آيلند، ونظّر له وأشاعه قبل أكثر من شهر، أصبح حقيقة، بل جزءاً كارثياً من آلاف الأجزاء الأخرى في أرض الموت والدمار التي أصبح عليها قطاع غزّة. تقوم نظرية آيلند على مبدأ بسيط، أن الانتصار بسرعة أكبر وبثمن أقلّ يمكن أن يتحقّق في حال دفع منظومات الطرف الآخر (حماس) إلى الانهيار، ومن ذلك المنظومة الصحية، فالأوبئة القاسية ستقرّب النصر. وهذه ليست "وحشيّة لذاتها"، أي ليست هدفاً بل وسيلة، وفي هذا تحذلقٌ عنصريٌّ متغطرس لتبرير إبادة الغزّيين، فدفع الطرف الآخر إلى المعاناة، بحسب آيلند، قد يدفعه إلى الاستسلام وتوقّف الحرب.
انتشرت الأوبئة فعلياً. وبحسب منسّقة الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لين هاستينغز، بات قطاع غزّة بيئة مثالية للأوبئة وكارثة صحية عامة، ومن شأن هذا، وفقاً لأطباء فلسطينيين، عودة أمراض اختفت منذ قرون. ففي موازاة القصف ثمّة حرب فيروسية وبكتيرية لم تشهدها حتى هيروشيما وناغازاكي، على حد وصف أحد الأطباء الفلسطينيين.
يحقّق هذا هدفاً غالياً ومعلناً لنتنياهو وجنرالاته، وخصوصا يوآف غالانت وزير ما يسمّى الدفاع، إضافة إلى آخرين في مجلس الوزراء يتقافزون غضباً، لأن جيشهم لم يقتل مائة ألف فلسطيني بعد، ولم يمسح غزّة عن وجه الأرض.
يقدّم تقرير نشرته "العربي الجديد" الثلاثاء الماضي صورة مصغّرة عن تبعات تحويل غزّة إلى مختبر لإنتاج الأمراض والأوبئة للفتك بالفلسطينيين، وهو يتحدّث عن وفاة جندي أصيب بنوع من الفطريات التي تتمتع بقدرة كبيرة على مقاومة العلاج. وفي التقرير ما يفيد باستعصاء هذا المرض على كل علاج تجريبي أو حتى تشخيص من خبراء تم جلبُهم من الخارج. ولا تعتبر حالة الجندي القتيل هذه استثناءً، فهناك عشرةٌ آخرون أصيبوا بهذه الفِطريات، وهي حالاتٌ مستجدّةٌ لم تظهر أشباهٌ لها خلال الحروب السابقة على غزّة.
يشير أطباء ومنظمات صحية دولية إلى كارثة الجثث التي تنتشر على أطراف الشوارع في مدن القطاع وأحيائه، وتحت ركام البيوت التي دُمّرت تماماً فوق رؤوس أصحابها، وأضيف إلى هذه تلوث مياه الشرب بمياه الصرف الصحي، ما أدّى إلى انتشار القوارض والحشرات، وظهور أمراضٍ جديدة، يعتبر بعضها منقرضاً، في بيئةٍ تفتقر إلى الحد الأدنى من كل شيء، ما يعني أن ما بدا نظريةً عنصريةً اقترحها جنرال إسرائيلي متقاعد هي عملياً استراتيجية اُعتُمدت ويجري تطبيقها لتحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم على الأرض، فمن لم يمُت بالقصف، الأمراض والأوبئة كفيلة بقتله، إن لم يكن اليوم فغداً.
هذه عمليات إعدام تجري أمام سمع العالم وبصره، وهي ترقى إلى مرتبة جرائم الحرب التي لا يرتكبها إلا عُتاة العنصريين والدمويين في التاريخ، فليست الحرب لدى هؤلاء بين جيوش أو بين جيش ومجموعات مسلحة، بل بين جيوش ومدنيين بعد تصنيفهم بالإرهابيين وبالبيئات الحاضنة للإرهاب، لتسويغ قتلهم، بل إبادتهم. ومن المعروف أن ضحايا هذا النوع من الإبادات يكونون غالباً من الأطفال، الأكثر هشاشة، والنساء، ما يعني محاولة تعقيم بالقوة القاهرة والأمراض لشعب بأكمله. وتقدّم الإحصائيات في هذا الشأن صوراً مروّعة ومُفزعة، وتكاد تنتمي إلى القرون الوسطى، عن نِسب الإصابات بالأمراض في قطاع غزّة، وبعضها تزيد على عشرات الأضعاف عما كانت عليه قبل العدوان الإسرائيلي.
في الحروب العرقية التي شهدها العالم أخيرا، ومنها الحرب في البوسنة، أو الحروب القومية ومنها الروسية على أوكرانيا، وقبلها الأميركيتان في العراق وأفغانستان، لم يشهد العالم وحشيةً كالتي تحدُث في غزّة، ولا انخفاضاً في المستوى، وبالتالي ارتفاعاً وازدياداً في التوحّش كالذي ترتكبه إسرائيل، ولعلها الحرب الوحيدة كما لاحظ كثيرون التي أصبحت فيها المستشفيات ومراكز العلاج والإيواء أهدافاً معلنة. وأن يحدُث هذا بدعم وسلاح أميركي لا يتوقف أو يخضع للمراجعة فذلك عار لن يُمحى في تاريخ الإنسانية برمّتها، يضاف إلى ذلك منع العلاج بإغلاق المعابر، وهو عارٌ محلي يلحق بنظام عربي سبق لإسرائيل أن أهانته مراراً فما اغتنم فرصة واحدة لردّ الاعتبار لنفسه بنصرة غزّة مثلاً، بل حوّل جواره الغزّي إلى حقلٍ لانتقامه وابتزازه، وتأبيد حالة الإنكار المُهينة التي يقيم فيها ويقتات عليها.