باكستان .. حَكَمت المحكمة العليا

09 ابريل 2022

أنصار حزب الشعب الباكستاني يحتفلون في كراتشي بعد إبطال حل البرلمان (8/4/2022/فرانس برس)

+ الخط -

بقرارها إبطال قرار رئيس الدولة الباكستانية عارف علوي حلّ البرلمان، والسماح بتصويت البرلمان على حجب الثقة عن رئيس الحكومة عمران خان، تثبت المحكمة العليا في هذا البلد أنها ضامنة للدستور وحارسة له، وليست مجرّد هيئة قضائية استشارية لتفسير الدستور. وهو تطوّر ربما لم يوله خان ما يستحقه من تقدير، بعد أن راهن على علاقته الوثيقة برئيس الدولة وعلى تحكّمه برئاسة البرلمان، فضلا عن مراهنته على تجييش أنصاره ودفعهم إلى تخويف أحزاب المعارضة. وبهذا، ثبت أن للمناورات السياسية حدودا، وهو ما لم يضعه خان في الاعتبار في غمرة طموحه الشخصي إلى زعامة وطنية تستمد شرعيتها ونفوذها من "الشعب" من الشارع، لا من الآليات الدستورية ومن موازين التفويض والتمثيل، والتوازن بين المؤسسات.

وكان الرجل قد نشط، في الآونة الأخيرة، للنفخ في مزاعم تدخل أجنبي ومؤامرة خارجية، من أجل النجاة من استحقاق نيابي بالتصويت على حجب الثقة به وبحكومته، وقد سعى بذلك إلى جرح وطنية أحزاب المعارضة، إذ نعت رجالاتها بالخونة والضلوع في مؤامرة مزعومة. وخلال ذلك، سعى إلى أن يؤدّي دور لاعب كبير على المسرح الإقليمي بالتقرّب من موسكو لإغاظة واشنطن، فبعد ساعاتٍ على بدء الغزو الروسي أوكرانيا، كان الرئيس فلاديمير بوتين يستقبل في الكرملين أول رئيس أجنبي يزور بلاده، وهو رئيس وزراء باكستان عمران خان، الذي أدّى أول زيارة لرئيس وزراء باكستاني لموسكو منذ 23 عاما. وعلى الرغم من أن الزيارة كانت مُجدوَلة مسبقا، إلا أن توقيت القيام بها انطوى على تأييد ضمني لموقف موسكو. بعد ذلك بأيام، وعشية تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على إدانة الغزو الروسي، كان السفراء الغربيون في إسلام أباد قد حثّوا باكستان، في بيان علني، على التنديد بما جرى. وسارع عمران خان إلى التنديد بموقف السفراء، لا بالحرب الروسية على البلد المجاور (هل نحن عبيد لكم؟ تساءل خان)، وقد امتنعت باكستان عن التصويت على مشروع القرار الأممي الذي يدين غزو أوكرانيا وحظي بأغلبية كبيرة. والحال أن نشر رسالة السفراء الغربيين كان إجراء نادرا، وهو ما استغلّه عمران خان الذي أطلق تساؤلاً آخر أكثر أهمية: هل خاطب السفراء الهند بمثل ما فعلوا معنا؟ وكانت الهند التي تشهد علاقاتها بواشنطن نموّا مطّردا قد امتنعت عن التصويت لصالح مشروع القرار.

امتنعت باكستان عن التصويت على مشروع القرار الأممي الذي يدين غزو أوكرانيا وحظي بأغلبية كبيرة

وبهذا، "نجح" رئيس حكومة باكستان في أن يتموضع، بصورةٍ ما، في قلب الخلاف الروسي الغربي، وإن لم يقصد ذلك بصورة حرفية، إذ كان في حاجة إلى أن يجعل من حملة المعارضة عليه، وسعيها إلى حجب الثقة عنه، ذات بُعدٍ أجنبي، وهي طريقة مألوفة لدى الحكام ذوي النزعة التسلطية والتيارات الشعبوية في صرف أنظار الرأي العام عن المشكلات الداخلية، وتوجيهها نحو "مؤامرات خارجية"، من دون إعفاء الغرب من ميله أحيانا إلى التأثير على مجريات الحياة السياسية في دول أخرى، بصورة غير لائقة إن لم تكن فجّة. وعشيّة جلسة البرلمان الأسبوع الماضي للنظر في مشروع لحجب الثقة عن خان، كان الأخير يردّد أن الولايات المتحدة تضغط وتهدد لإزاحته من الحكم، وقال إن سفارة بلاده في واشنطن قد طيّرت برقية إلى وزارة الخارجية في إسلام أباد، تفيد بأن مسؤولاً أميركياً التقى أحد أركان السفارة وأبلغه أن العلاقات الباكستانية الأميركية سوف تشهد تحسناً في حال رحل خان عن الحكم. وهو ما نفاه مسؤولون أميركيون، منهم الناطق باسم الخارجية نيد برايس، الذي صرّح بأن "لا صحة لهذه الاتهامات"، غير أن خان وأركان حزبه في البرلمان وخارجه قد جعلوا هذا التصريح ماسّاً بالدستور، وذلك أمام تطوراتٍ أقلقت خان، وتمثلت بانضمام ثلاثة من الحلفاء الخمسة في حكومته: الحركة القومية المتحدة، وحزب عوامي بلوشستان، والحزب الوطني الجمهوري، إلى صفوف المعارضة. وكذلك انشقاق عشرة نواب عن حركة إنصاف التي يقودها، ما رفع حظوظ المعارضة، فلمّا انعقدت جلسة البرلمان للنظر في حجب الثقة، سارعت المعارضة، ممثلةً في الأساس بحزب الرابطة الإسلامية جناح شهبناز شريف، وحزب الشعب، في خطوة غير مفهومة لنزع الثقة عن رئيس البرلمان أسد قيصر، وعن ترؤس الجلسة بدعوى قربه من خان، ما أفسح المجال لنائبه قاسم خان سوري، المنضوي بدوره في حركة إنصاف، لترؤس الجلسة. وقد سارع إلى إعلان رفض التصويت على حجب الثقة بداعي وجود شبهةٍ دستوريةٍ تتعلق بتدخل أجنبي كما قال.

وكان خان قد استبق عقد الجلسة بدعوة أنصاره إلى التظاهر أمام الجمعية الوطنية (البرلمان). وإثْر ذلك، اقترح على رئيس الدولة عارف علوي حل مجلس النواب والحكومة معاً، واستجاب الرئيس، وأمام ذلك ثارت ثائرة المعارضة التي عدّت ذلك انتهاكا صارخا للدستور، وأحالت الأمر برمته إلى المحكمة العليا التي بدأت النظر في مجمل هذه التطورات يوم الأحد الماضي 3 إبريل/ نيسان، رغم أنه يوم عطلة رسمية في باكستان، إلى أن أصدرت المحكمة قرارها مساء الخميس 7 إبريل/ نيسان. ومع بدء جلسات المحكمة، كان نائب المدّعي العام رجا خالد قد أعلن استقالته، واصفاً حل البرلمان بأنه "غير دستوري"، وبأن "ما حدث لا يمكن توقّعه إلا في ظل حكم ديكتاتور".

تخوض المعارضة حملتها على خلفية اتهامات بالفساد واضطراب السياسة الخارجية والفشل في إنهاض الاقتصاد المتعثر

وبينما تخوض المعارضة حملتها على خلفية اتهامات بالفساد واضطراب السياسة الخارجية وتناقص في احتياطي النقد الأجنبي وزيادة العجز المالي والفشل في إنهاض الاقتصاد المتعثر بعد جائحة كورونا، فإن خان صوّر الأزمة كلها أنها ناجمة عن تدخل أجنبي، مستثمرا مشاعر النقمة لدى قطاع كبير من الرأي العام إزاء الولايات المتحدة، فيما ترى المعارضة أن خان يعمل على الالتفاف على الدستور، والقفز عنه للبقاء في الحكم. ويرى خان في حملة التسييس هذه أن واشنطن تعمل على التخلص منه، لأنه لا يُجاريها في مواقفها إزاء الصين وروسيا. وقد عُرف عنه ترحيبه بانتصار حركة طالبان في أفغانستان، وقد وصف الانسحاب الأميركي من هذا البلد بأنه "تحرّر من العبودية". وترتبط إسلام آباد بعلاقات وثيقة وتقليدية مع الولايات المتحدة، وتقيم المؤسسة العسكرية بالذات علاقات تعاون واسعة مع واشنطن. ومع أن الجيش ينأى بنفسه عن الظهور بمواقف سياسية علنية، إلا أن السياسة في هذا البلد استقرّت على إقامة علاقات ثابتة مع واشنطن، ولاحقاً مع بكين، فيما يُنظر إلى روسيا أنها صديقة تاريخياً للجار المنافس الهند. ولطالما شهدت باكستان انقلابات عسكرية، منها أربع انقلابات ناجحة، وانقلابات فاشلة عديدة، إلا أن الجيش يبقى لاعباً أساسياً في الحياة العامة، وكان يتردّد في إسلام أباد أن الجيش وراء صعود عمران خان في يوليو/ تموز من عام 2018، فيما يتسم موقف المؤسسة العسكرية في هذه الآونة بالحذر والتحفظ، وتتّجه إليها الأنظار هذه الأيام لضمان تنفيذ قرارات المحكمة العليا من دون عوائق.

يُذكر هنا أن المحكمة العليا رافقت استقلال باكستان في 1947، وتعتبر جزءا من إرث الهند القانوني، قبل أن تنفصل عنها باكستان التي تمسّكت بهذا الإرث، وحافظت على استمراره، ولطالما اتخذت قراراتٍ تُبطل إجراءات لرؤساء الجمهورية والحكومة. ومن المثير للانتباه في سلسلة قرارات المحكمة أنه في العام 2007 صدر قرار عن الرئيس برويز مشرف بعزل رئيس المحكمة افتخار شودري، إلا أن المحكمة أصدرت قرارا بإعادته إلى رئاستها، وظلت السلطات تعيق عودته إلى رئاسة المحكمة، حتى عاد بالفعل إلى رئاسة أعلى هيئة قضائية في العام 2009.