"بازار" البديل السياسي
مع تصاعد الهواجس بانحسار النفوذ الإيراني في العراق، لم تقف الكواليس السياسية العراقية، في الأسابيع الماضية، عند حدود الحديث عن "البديل"، وإنما هناك من تشجّع ليطرح نفسه بكلّ ثقة بديلاً سياسياً من الطبقة الحاكمة، وهناك من استثمر اللحظة لإعادة تنشيط مساره الخامل، أو إعادة التذكير بوجوده، وأنه ما زال حيّاً ويتنفّس في حلبة السياسة، كما حصل في الأسبوع الماضي، حين أطلقت مجموعة من الشخصيات السياسية المُستهلكَة بياناً قيامياً في عنوانه، بائساً في محتواه، فتلبّس أدوار البشير النذير، وأن الطبقة الحاكمة أمام "الفرصة الأخيرة" لها لتصحيح المسار، ولكنّ هؤلاء السياسيين المتقاعدين والمَنسيّين، الذين يتجشأون شبعاً وبطنة من مرتّبات أدوارهم السياسية السابقة، لا يملكون سوى إعادة التزلّف للطبقة الحاكمة نفسها، وإعادة كلامها الرميم نفسه، والتذكير بسياسة "الرشّ" على الشعب المسكين والأعطيات البائسة، التي أثقلت ميزانيات الدولة الريعية إلى حدود العجز الكامل عن تنشيط الموارد الاقتصادية، والاعتماد على ارتفاع أسعار النفط العالمية فقط.
من خارج الحدود، تخرج شخصيات سياسية أخرى تعلن صراحة أن مشروعها هو إسقاط النظام الحالي برمّته، وأنها أيضاً هي "البديل"، لتداعب أحلام كثيرين من المواطنين العراقيين الحانقين والغاضبين على الطبقة السياسية الحاكمة، ولكنّها لا تقدّم لهم أيضاً سوى دغدغة العواطف والمشاعر، من دون برنامج سياسي واضح سوى الإعلان عن ولائها لأميركا وسيرها في ركبها، وكأنّ الطبقة السياسية الحاكمة الحالية لم تخرج من الكيس الأميركي ذاته، وكأنّها لا تسعى لإرضاء الأميركيين بأيّ وسيلة تتيحها الظروف الإقليمية المحيطة.
كنتُ في خريف 2019 في مدينة ياش الرومانية، التي وصلت إليها مروراً بمطار بوخارست العاصمة. كان من المدهش اكتشافي أن المطار بائس وقديم، أمّا مطار ياش فهو يذكّر بأجواء الحرب العالمية الثانية، وحدّثني رومانيون كيف أنهم عقدوا آمالاً كبيرة بعد إسقاط تشاوشيسكو في ديسمبر/ كانون الأول 1989، باتباع نموذج التنمية الغربية، ولكنّ ما حصل أن قلّةً من المنتفعين من رجالات النظام السابق اشتروا الأصول الاقتصادية الرومانية بعد الخصخصة، بأثمان بخسة، وأُعيد إنتاج آلة الفساد، وتعطّلت التنمية المنشودة.
في وقتٍ كنت أستمع فيه لخيبات الرومانيين كان الشباب العراقيون يتساقطون قتلى في شوارع العراق بنيران النظام السياسي، الذي فوجئ بثورة الشباب. وجاءت هذه المفاجأة بسبب أن النظام السياسي لم يكن لديه فضول ليعرف ما يدور في الشارع العراقي، وانشغل بتقاسم الحصص والمنافع، بل كانت الكواليس في تلك الأوقات تتحدّث عن مفاوضات طويلة بين أبرز كتلتين سياسيّتَين شكّلتا حكومة عبد المهدي (تحالف سائرون وتحالف الفتح)، واستمرّت المفاوضات عاماً، ولم تصل إلى حلّ نهائي بشّأن تقاسم مناصب ما سمّيت "دولة المالكي العميقة"، من وكلاء الوزارات والمدراء العامّين. لتأتي انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول (2019) وتخلط الأوراق كلها.
يجب أن يحمل البديل السياسي الحقيقي رؤيةً مختلفةً، واقعيةً وتنتمي إلى الهواجس الاجتماعية السائدة وتطلّعات النخب الشبابية المتنوّعة في مدن وبلدات وقرى العراق.
لا يشكّل القفز إلى السفينة الأميركية بحدّ ذاته حلّاً لمشكلات العراق، من دون وجود وعي وطني خلّاق ومبدع يحمل تطلّعات صادقة، إيثارية وأخلاقية، لا تفكّر بإعادة إنتاج الألاعيب التي أدمنتها الطبقة السياسية الحالية على مدى العشرين عاماً الماضية.
الفراغ السياسي الذي نتج عن سقوط نظام صدّام حسين جعل المواطنين العراقيين المتطلّعين لمرحلة جديدة يمنحون ثقتهم لـ"البديل السياسي" المتاح آنذاك، واستطاع هذا البديل خذلانهم بكلّ كفاءة (!) بلّ خرّب الآمال كلّها. وهناك على ما يبدو فراغاً سياسياً قادماً، لن يأتي بالضرورة وفق السيناريو السوري، ولكن من غير المقبول أن يُملأ بما هو متاح، وعلى القوى الوطنية، والشبابية منها تحديداً، أن تجهّز نفسها، وألّا تتقاعس وتتحمّل مسؤوليتها الوطنية والأخلاقية تجاه مجتمعاتها المحليّة، وتجاه الشعب العراقي بشكل عام.