بأيّ ذنبٍ تعاقب "أونروا"؟
كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.
ولدت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجني فلسطين في الشرق الأدنى (أونروا) بقرار من الجمعية العمومية للأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول 1947، وباشرت عملها في بداية شهر مايو/ أيار من العام التالي. وكما يدلّ اسمُها، فقد شملت ولايتها جميع اللاجئين في فلسطين التاريخية والأردن وسورية ولبنان، وكذلك اللاجئين الفلسطينيين داخل إسرائيل واليهود القادمين إليها من الدول العربية (والذين استثنتهم حكومة إسرائيل بعد عامين). هذا وتقدم "أونروا" خدمات متنوعة تشمل التعليم الأساسي والتدريب المهني والرعاية الصحية والتشغيل والإغاثة الإنسانية وصيانة وتطوير البنية التحتية للمخيّمات، تلك الخدمات التي يستفيد منها ما يقارب الستة ملايين لاجئ فلسطيني مسجّل. وفي قطاع غزّة تحديداً، حيث نسبة اللاجئين من العدد الكلي للسكان لا تقل عن 70%، فإن عدد العاملين في "أونروا" يقارب 13 ألفًا، ولا تقل نسبة المحليين منهم عن 99%، أغلبيتهم الساحقة من معلمي المدارس والمعاهد التابعة للوكالة ومعلّماتها. وفي الحرب الوحشية والمدمرة الحالية على قطاع غزّة، كما في الحروب التي سبقتها، كانت "أونروا" ولا تزال العمود الفقري في مجال توفير الحماية وتقديم الخدمات الأساسية وتوزيع المساعدات الإنسانية على فلسطينيي غزّة بعامة واللاجئين منهم بخاصة.
ويخدع نفسه كل من يعتقد أن موظفي "أونروا" من الفلسطينيين، سواء في قطاع غزّة أو الضفة الغربية أو القدس العربية، أو حتى في دول الطوق المذكورة أعلاه، محايدون تجاه قضايا شعبهم. ويخدع نفسه أكثر كل من يعتقد بأنهم محايدون تجاه المقاومة ضد الاحتلال، إسلامية الهوى كانت أو غير ذلك. فهم، مثل غيرهم من أبناء شعبهم وبناته، وطنيون ومتحزّبون. ولكنهم عرفوا دائمآ كيف يوفقون بين انحيازهم لقضايا شعبهم وشروط عملهم والتزاماته. هذا ما كان واضحاً وجليّاً عبر السنين، خصوصاً منذ انتفاضة الحجارة التي اندلعت عام 1987 حتى الحرب الحالية. ويعرف ذلك القاصي قبل الداني والعدو قبل الصديق. وإذا حادت قلة ضئيلة عن سواء السبيل هذا، فالوكالة تعرف كيف تُحاسب وكيف تُعاقب وكيف تستخلص العبر. ولكن أن تعاقب الوكالة بحجب الدعم المالي عنها، ومن خلالها يعاقب اللاجئون الفلسطينيون جماعيّاً في قطاع غزّة، في وقت حربٍ هم بأمسّ الحاجة إلى خدماتها، بسبب اتهام حكومة إسرائيل 12 من موظفيها بالمشاركة في عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فهذا دليل على سوء نية وسوء طوية، أقلّ ما يقال، وخصوصاً أن العقاب كان سابقًا للتحقيق أو الإدانة. ويستهدف سوء النيّة أو الطوية هذا لا أقلّ من وجود الوكالة الأممية ذاتها.
يخدع نفسه كل من يعتقد أن موظفي "أونروا" من الفلسطينيين، سواء في قطاع غزّة أو الضفة الغربية أو القدس العربية، أو حتى في دول الطوق المذكورة أعلاه، محايدون تجاه قضايا شعبهم
وليس استهداف الوكالة الأممية ذاتها من كل من حكومة إسرائيل والإدارة الأميركية جديداً أو مفاجئاً، ففي عز المراقصة "حتى نهاية الحب" بين نتنياهو والرئيس الأميركى ترامب عام 2018، تلك المراقصة التي توجت بصفقة القرن البغيضة، جمّدت الولايات المتحدة دعمها المالي في صيف العام نفسه لـ"أونروا"، والتي تقدم خدماتها اليوم لملايين اللاجئين الفلسطينيين، داخل حدود فلسطين التاريخية وخارجها. أمًا "الخطينة الأصلية" للوكالة، حسب كل من حكومة إسرائيل والإدارة الأميركية، جمهورية كانت أو ديمقراطية، فهي إدامتها حالة اللجوء الفلسطيني وارتباط ذلك اللجوء بحق العودة والتعويض، كما نصّ على ذلك قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948. أمًا ادّعاء أن الوكالة مخترقة من المقاومة الإسلامية في غزّة، وأن مدارسها ومناهجها التعليمية تزخر بالتحريض ضد إسرائيل، وأن بعض موظفيها متّهمون بالمشاركة في عملية طوفان الأقصى، وذلك كله من باب تعزيز الموقف السابق والداعي إلى شطب الوكالة واستبدالها بهيئة إغاثة إنسانية أخرى، مثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة بدورها للأمم المتحدة.
بكلمات أخرى، الوكالة مستهدفة ليس بسبب ما تقدّمه من مساعدات إنسانية أو إغاثية، وليس أيضاً بسبب تحزّب موظفيها وتعاطفهم مع المقاومة، وإنما بسبب ارتباط تلك المساعدات والخدمات بالقضية الوطنية/ السياسية. وبالتالي، ما تطالب به حكومة إسرائيل، المدعومة أميركياً، هو عملياً لا أقل من تحييد البعد الوطني/ السياسي لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وتبعاً لذلك شطب الوكالة التي تخدمهم حصرياً. أما في ما يتعلق بلاجئي قطاع غزّة، والذين يشكلون ما لا يقل عن 70% من سكّان القطاع، فالإبقاء على "أونروا" يقف عائقاً في وجه التهجير القسري أو القسري/ الطوعي المشتهى. وللعلم، وانسجاماً مع ذلك، بدأت بالتزامن حملة يقودها نشطاء يهود صهاينة تستهدف وجود "أونروا" في القدس المحتلة أيضاً.
الإبقاء على "أونروا" يقف عائقاً في وجه التهجير القسري أو القسري/ الطوعي المشتهى
وللإجمال، أقول التالي بشأن الأهداف المُراد والمشتهى تحقيقها لدى القائمين على الحملة التي تستهدف وجود الوكالة الأممية: أولاً: توطين الدول والسلطات المعنية اللاجئين الفلسطنيين أينما وجدوا، وتقديم المجتمع الدولي المساعدات المالية اللازمة لذلك. ثانياً: التهجير القسري أو القسري/ الطوعي لأكبر عدد ممكن من اللاجئين في قطاع غزّة، وتسهيل استيعابهم في دول عربية وأوروبية تقبل بهم. ثالثاً: تشجيع هجرة اللاجئين في الضفة الغربية، يشمل القدس العربية، عن طريق تقديم الحوافز اللازمة لتحقيق ذلك. رابعاً: تقديم المساعدات الإنسانية/ الإغاثية، وبعد فصلها عن البعد السياسي/ الوطني، بواسطة هيئة دولية مستحدثة تستبدل الوكالة أو من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. وهذا يعني مباشرة إلغاء "صلة الرحم" بين اللجوء الفلسطيني وحقّ العودة.
خامساً: بالتهجير القسري/ الطوعي من قطاع غزّة، وبتحفيز الهجرة من القدس العربية وبقية أجزاء الضفة الغربية، يتسنّى تعديل الميزان الديموغرافي بين الفلسطينيين والإسرائيليين اليهود شرق البحر وغرب النهر، ذلك الميزان الذي بدأت كفته تميل لصالح الفلسطينيين.
ما تطالب به حكومة إسرائيل، المدعومة أميركياً، هو عملياً لا أقل من تحييد البعد الوطني/ السياسي لقضية اللاجئين الفلسطينيين
وختاماً، مضت أربعة شهور على حرب إسرائيل الوحشية والمدمّرة على قطاع غزّة المحاصر منذ حوالي 18 عاماً. وكانت الخسائر البشرية والمادية مرعبة في هولها: ما يزيد عن مائة ألف فلسطيني بين شهيد وجريح ومفقود، من بينهم أكثر من ثلاثمائة من الطواقم الطبية وأكثر من 150 من موظفي الأمم المتحدة وأكثر من 120 من الصحافيين؛ ما لا يقل عن مائتي ألف وحدة سكنية بين مدمّرة كليّاً أو جزئيّاً؛ سنة دراسية بكاملها ضاعت على طلبة المدارس والمعاهد والجامعات؛ معظم المشافي والعيادات الطبية والصحية خرجت عن الخدمة بسبب القصف، كما بسبب نقص الوقود والدواء أساساً؛ وصار الماء والغذاء والدواء والوقود والاتصال الرقمي نادراً؛ ونزح إلى الجنوب وجنوب الجنوب ما يقارب المليون ونصف المليون من الغلابة، مئات الآلاف منهم يقيمون في خيام في محافظة رفح، وعرضة للجوع والبرد والمطر والمرض؛ وشبح التهجير القسري والقسري/ الطوعي المرعب لا يكفّ عن التحليق في سماء مدينة رفح ومخيمها. تُضاف إلى كل هذه الأهوال والويلات قرارات دول كثيرة، في مقدمتها الولايات المتحدة، بتجفيف منابع الموارد المالية لوكالة الغوث، وذلك بعد أيام قليلة من اتهام حكومة إسرائيل بشبهة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية من محكمة العدل الدولية.
وأخيراً، سوف تكون لتجفيف الموارد المالية للوكالة المذكورة انعكاسات سلبية على ما يزيد عن 30 ألفاً من عامليها وعائلاتهم في المواقع والدول المختلفة، نحو 40% من بينهم يعملون في قطاع غزّة. ولكن الأقسى والأخطر هي الانعكاسات والتبعات بعيدة المدى على ملايين المستفيدين، خصوصاً في قطاع غزّة الذي يعاني ما يعاني حالياً من ويلات وأهوال حرب وحشية ومدمّرة منذ أربعة شهور، شحّ خلالها ماء الشرب والغذاء والدواء والوقود والمال والمأوى الآمن والواقي. في مثل هذه الظروف الكارثية والمعقدة، لا بديل ولا غنى عن "أونروا" في مجال تقديم الخدمات الأساسية وتوزيع المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة، فهي الأعرف وهي الأقرب وهي الأحرص، وبشهادة جميع الفرقاء المعنيين عبر السنين، فإذا أصرّت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية وغير الأوروبية في فلكها على تجفيف الموارد المالية للوكالة، فإن الرد الواجب والمتناسب يكون كما أقول ويقول ويردد كثيرون من الأحرار العرب: أنقذوا "أونروا" يا عرب، يا عرب الخليج العربي أنقذوها، فهذا أضعف الإيمان يا عرب.
كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.