انسحاب الحريري ضرورة طائفية

05 فبراير 2022

سعد الحريري يعلن في بيروت تعليق عمله السياسي (24/1/2022/Getty)

+ الخط -

صُدم مريدو رئيس الحكومة اللبنانية السابق، سعد الحريري، وخصومه من إعلانه أخيراً تعليق عمله في الحياة السياسية وعدم التوجه إلى الانتخابات البرلمانية. وتجمع غالبية التحليلات على اعتبار هذا الإعلان بمثابة زلزال (على الرغم من تداول القرار قبل صدوره)، الذي سوف يطاول سائر مكونات النظام الطائفي اللبناني، بما فيه الطرف المهيمن، ممثلاً بحزب الله. ما هي أسباب هذا القرار؟ وما دلالاته؟

من ناحية أولى، يعبر الإعلان بشكل واضح عن إقرار الحريري بهيمنة حزب الله وإيران على الدولة والنظام اللبنانيين، أي أن الدور الإيراني تجاوز حدود الدولة اللبنانية ليطاول تركيبة النظام الطائفي، حتى باتت إيران المتحكّم الأبرز بحدوده وتفاصيله وتركيبته. ولكن، نجد في الإعلان، من ناحية ثانية، محاكاة لرغبات رافضي الاستسلام لهيمنة إيران وحزب الله، فتعليق المشاركة يمكن اعتباره من أشكال الاحتجاج أو الرفض القابل للتطوّر إن لاقى صداه خارج لبنان أو داخله.

طبعاً لا يعني ذلك الإشادة بقرار الحريري، فهو لا يختلف كثيراً عن الحزب، سيما في ما يخص أنهما من أدوات الهيمنة الإقليمية، فكما لا يُخفي الحزب مرجعيته الإيرانية، نجد مجاهرة حريرية بولائه للسعودية وللمصالح الفرنسية والأميركية. وعليه، الاختلاف بينهما؛ الحريري وحزب الله؛ يعكس الصراعات الإقليمية بين السعودية وإيران، أي لا يملك الطرفان اللبنانيان القدرة على حل هذا الخلاف. وهنا كان للحريري أو لمستشاريه قراءة تحليلية خبيثة لكنها لافتة، حيث انطلقوا أولاً من إمساك السعودية وإيران بكامل خيوط اللعبة (غالبيتها) اللبنانية. لذا لا طائل من الحوار اللبناني - اللبناني، ومن التنافس الانتخابي. ولاحظوا ثانياً التحوّلات التي طاولت السياسة السعودية الخارجية التي باتت تتجنّب الصدام المباشر مع إيران وحلفائها، على التوازي مع حرصها على إعاقة تحقيق المصالح والأهداف الإيرانية ومنعه، عبر إثارة النزاعات الداخلية السياسية، كما يتجلى نسبياً في العراق. وأخيراً، أدرك الحريري ومستشاروه أن الفاعل الوحيد القادر والعازم على الدخول في مواجهة تتضمن الحزب هو الشارع المؤمن بانتفاضة أو ثورة أكتوبر، لكنه؛ أي الشارع؛ لا يميز بين سائر مكونات السلطة والمنظومة الطائفية، فهو يعتبرها مجتمعة هدفاً له، كما جسّده شعار "كلن يعني كلن"، الأمر الذي يضع الحريري وتياره ضمن خصوم الانتفاضة أيضاً.

المنظومة الطائفية عاجزة عن تحقيق أي من المطالب الوطنية، لتناقضها مع بنيتها ومصالحها

لذلك، لم يتأخر تبرؤ الحريري من السلطة والمنظومة الطائفية، بل ترافق مع إعلانه تعليق مشاركته السياسية بقوله "لكن ما لا يمكنني تحمّله أن يكون عدد من اللبنانيين .. يعتبرونني أحد أركان السلطة التي تسببت بالكارثة، والمانعة لأي تمثيل سياسي جديد من شأنه أن ينتج حلولاً لبلدنا وشعبنا"، وكذلك بربطه استقالته عقب الانتفاضة استجابة لمطالبها بقوله "كنت الوحيد الذي استجبت لانتفاضة 17 تشرين الأول 2019 وقدّمت استقالتي". إذاً يبدو أن تعليق المشاركة السياسية والامتناع عن المشاركة في الانتخابات النيابية بمثابة محاولة حريرية جديدة للالتفاف على انتفاضة 17 تشرين، إذ لم تفلح محاولة الحريري الأولى في ذلك، المتمثلة بالاستقالة من رئاسة الحكومة، كما لم تفلح محاولته الثانية أيضاً عندما حاول تشكيل حكومة اختصاصيين بعد كارثة ميناء بيروت، نتيجة إصرار الشارع المنتفض على اعتباره، في الحالتين، جزءاً من المنظومة الطائفية المسيطرة، ومطالبتهم بمحاكمته مع الرئاستين، النيابية والجمهورية، نظراً إلى دورهم في كارثة ميناء بيروت الذي بدأ مع تجاهل خطر نترات الأمونيوم وانتهى بانفجاره، فضلاً عن محاسبة جميع المتورّطين على مختلف مسؤولياتهم ومناصبهم.

إذاً، لم ينجح الحريري في القفز عن مركب المنظومة الطائفية، الأمر الذي يعمّق أزمته السياسية أولاً، وأزمة مجمل المنظومة الطائفية ثانياً، إذ تؤدّي إلى تعميق أزمة الحريري نتيجة اضطراره على التحالف مع حزب الله أو إلى مسايرته، وإلا فلن يصبح رئيساً لمجلس الوزراء، أي لقد تحوّل الحريري، أخيراً، من زعيم سني ولبناني، كما كان عليه الوضع بعد اغتيال والده، إلى مجرّد أداة من أدوات الحزب الشكلية. وعليه، خسر الحريري دوره ومكانته التي اعتادها واعتادها أنصاره منذ زمن والده. لذا كان لا بد من مغامرة تعليق المشاركة السياسية، على أمل تحسين وضعه، ففشل المغامرة لن يحمّله خسائر جديدة أكبر وأكثر من خسائره الراهنة.

لم يتأخر تبرؤ الحريري من السلطة والمنظومة الطائفية، بل ترافق مع إعلانه تعليق مشاركته السياسية

أما فيما يخصّ تأثير فشل الحريري في ركوب موجة الانتفاضة على كامل المنظومة الطائفية اللبنانية، الأمر عائد إلى عجزها في تجاوز مواقف انتفاضة 17 تشرين الوطنية والجذرية، على الرغم من تراجع المشاركة الشعبية، فالمنظومة الطائفية عاجزة عن تحقيق أي من المطالب الوطنية، لتناقضها مع بنيتها ومصالحها. لذا سعت إلى تطييف الانتفاضة؛ من دون جدوى؛ عبر إثارة النعرات الطائفية، واستخدام المال الطائفي، والتضييق والملاحقات الأمنية، والترهيب والقتل، وصولاً إلى توتير أجواء الحوار الطائفي إعلامياً وسياسياً بين الحريري وزعيم التبار الوطني الحر جبران باسيل من جهة، ورئيسي الجمهورية ميشال عون ومجلس النواب نبيه برّي من جهة أخرى، وسواهم من أقطاب النظام الطائفي؛ وليد جنبلاط وسليمان فرنجية وسمير جعجع ووئام وهاب. وعليه، لم يعد من مجال إلى تطييف الانتفاضة من دون مخاطرة كبرى، كما في ابتداع مسرحية (أخرجها الحريري أو مجمل المنظومة الطائفية) تفضي إلى شقّ وحدة المنظومة الطائفية المهيمنة، واضعة أحد أهم أقطابها في مواجهة معها، كي تساهم معارضة الطرف المنشق في جذب انتفاضة تشرين رويداً رويداً، وهو ما يمثله الحريري اليوم.

أما لماذا الحريري دون سواه من أقطاب المنظومة الطائفية، فربما بسبب فطنة مستشاريه وخبثهم، أدركوا حساسية اللحظة، وراهنوا على قدرتهم أو قدرة الحريري على اقتناصها عبر ركوب موجة الانتفاضة. وربما يعود إلى متطلبات تطييف الصراع مع الانتفاضة، عبر فرض قطبين طائفيين متخاصمين، وهو ما يضمنه الحريري وحده، فهو ممثل الطائفة السنية شبه الوحيد، وحزب الله ممثل عن الطائفة الشيعية شبه الوحيد أيضاً. في حين لم تفلح محاولات عون، ومن خلفه صهره باسيل، في فرض هيمنة التيار الوطني الحر على مجمل القوى السياسية الطائفية المسيحية، على الرغم من نجاحهما في فرض تولي عون رئاسة الجمهورية. لذا كانت ثنائية سني - شيعي أمل المنظومة الوحيد في تطييف الانتفاضة وحرفها، وصولاً إلى القضاء الكامل عليها وإعادة فرض سيطرة كامل المنظومة الطائفية وهيمنتها. لكن هل يتحقق لها ذلك؟ أم لجمهور الانتفاضة ومؤيديها رأي آخر، هذا ما سوف تكشفه لنا الأسابيع والأشهر المقبلة.