انتكاسة ديمقراطية وليست جمهورية جديدة في تونس
منذ علق الرئيس التونسي قيس سعيّد العمل بالبرلمان، وأقال الحكومة، وصولا إلى الاستفتاء على دستور جديد نظم أخيرا، أخذت الأزمة السياسية في تونس أبعادا خطيرة، وتشهد صراعات حادة، وانقسامات مزمنة واتهامات متبادلة. وأحدثت هذه الأجواء المحتقنة حالة من الاستقطاب والتجاذب غير السليم، وخصوصا أن ما حدث ويحدث يأتي في وقت تجتاز فيه أرض الياسمين مرحلة عصيبة، على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية. كما أن الحكومة المعيّنة من قيس سعيّد باشرت جولة رابعة من المفاوضات المتعثرة مع صندوق النقد الدولي، وتجابه معدّل تضخم تجاوز 8%، إضافة إلى ارتفاع نسبة البطالة، وتدني مستوى المعيشة، واستفحال الهجرة السرّية التي تنتج المآسي والآلام، جرّاء وفاة عشرات الشباب في عرض مياه المتوسط، بحثا عن جنة وهمية في الضفة الأخرى. كما هو الشأن بالنسبة لشباب مغاربة وجزائريين.
دخلت تونس مرحلة جديدة تطبعها الشكوك وعلامات الاستفهام. بالمصادقة على الدستور الجديد عبر استفتاء 25 يوليو/ تموز 2022، وهو دستور رئاسوي بامتياز، تصوّره الرئيس وحدّد بنوده ومضامينه. وبتبنّي هذا الدستور، بات الحديث جاريا عن إغلاق قوس عشر سنوات من تعلم الديمقراطية غير الناجع، والتدرب على ثقافة دولة المؤسسات، في بلد لطالما اعتبر مهدا للربيع العربي الذي أنتج ثورات غير مسبوقة هزّت دولا في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
وعلى الرغم من كل ما قيل وكتب عن غياب شرعية الدستور الجديد، فقد جرى الإعلان عن انتصار "نعم" في استفتاء قاطعته المعارضة، لأنها اعتبرته استحقاقا يفتقد الشرعية، لكن هذه "النعم" ستضفي الطابع الدستوري على السلطات الشخصية لقيس سعيّد، والتي شرع في ممارستها عمليا بدءا من 25 يوليو/ تموز 2021، ليدير الدولة كما يدير مقاولة عائلية. ولم تتردّد قوى سياسية ومدنية، ونخب تونسية ومنظمات دولية وحكومات غربية، في وصف ما أقدم عليه قيس سعيّد بالانقلاب الذي أراد أن يضع حدا لنظام انبثق من رحم ثورة 2011. وكان جوهره ونواته الصلبة المؤسّسة البرلمانية. وليس هناك أدنى التباس أو ذرة شك في أن الاستثناء تحوّل، مع تبنّي الدستور الجديد، تحول إلى قاعدة، والسلطوية والحكم الفردي أصبحا قانونا. وإذا كان هذا الغرق مصير سفينة مرحلة ما بعد الثورة قد صودق عليه عبر اقتراع شعبي، فإن الأرقام والمعطيات السياسية والانتخابية، ونسبة المشاركة الضعيفة، كلها عناصر تظهر بالملموس هشاشة الشرعية التي يتسلح بها قيس سعيّد وأنصاره. وكان لافتا أن سعيّد لم يعر بتاتا أي اهتمام لكل المواقف المعارضة، والمظاهرات الرافضة، والمقاومات المعبر عنها من جبهة الخلاص الوطني، بل تجاهل كل شيء، وثبت على موقفه، ورابط في موقعه، ليفرض قطيعة قسرية، متمثلة في دفن نموذج تونسي، لطالما كان مصدر إغراء في الخارج، بفضل فرادته وتميزه وحمله إرهاصات تحول ديمقراطي واعد، وخصوصا أن تونس البلد الصغير أكد للعالم أنه ليس هناك خطاطة قدرية مرسومة سلفا تكبّل المنطقة العربية، وأن هذه المنطقة ليس مكتوبا عليها، باسم ثقافة محافظة ومستبدّة ومنغلقة، أن تظل قابعةً خانعة تعيش في ظل أنظمة استبدادية قمعية، وأن التطلّع إلى الحرية والكرامة ليس امتيازا غربيا، ولا شأنا مقتصرا على دوله، بل هي مطلب كوني، يراود كل شعوب العالم، التي تكتوي بنار ولهيب قوانين ودساتير واختيارات غير ديمقراطية.
تجاهل قيس سعيّد كل شيء، وثبت على موقفه، ورابط في موقعه، ليفرض قطيعة قسرية، متمثلة في دفن نموذج تونسي لطالما كان مصدر إغراء في الخارج
كانت أهم رسالة لثورة العام 2011 أن الكرامة الاجتماعية والاقتصادية هما العمود الفقري، والأساس المتين لكل البرامج والشعارات، لكن هذه الوعود، حسب أنصار قيس سعيّد وقوى تتقاطع معهم، قوبلت بالخيانة، وأجهض تحقيقها فوق أرض الواقع، على امتداد عشرية من السهو السياسي واللامبالاة والإهمال. وتقتضي الموضوعية الإقرار بأن الحكومات المتعاقبة في تونس ظلت حبيسة أجندتها الحزبية، وتعثرت بسبب قلة التجربة، وارتهانها لاستراتيجية المصالح وتصفية الحسابات، ولذلك فشلت في تقليص الفوراق الاجتماعية والاختلالات الجهوية. وتبعا لذلك، فقدت تعاطف الشارع وثقته.
قيس سعيّد، في آخر المطاف، وبعيدا عن أي مغامرة تنظيرية لا تتقيد بالمعادلات السياسية والسوسيولوجية ومقتضيات الواقع وحقائقه، منتوج شرعي وطبيعي لهذا الفشل الذريع والسقوط المدوي لمجمل الشعارات، وللاستياء العميق الذي طاول حتى فكرة الديمقراطية والحريات. وتأسيسا على ذلك، ترسّخت أسطورة المنقذ من الكوارث والأزمات، والحامي الذي اعتقد الجميع أن غضبه تعبير صريح عن صدق ما يؤمن به من مبادئ وقيم، وما يتشبع به من وطنية، وما يتحلى به من استقامة ونقاء اليد، فقرّر أن يعيد وضع قاطرة الثورة على السكة الصحيحة، بعدما انحرفت عن المسار. ولكن قيس سعيّد سقط في فخّ قيس سعيّد. وعليه الآن أن يتفرغ لتأويل بنود دستوره، فحجم الانتظارات كبير ولا حدود لسقفها. وعليه ألا يتعامل مع هذه الوثيقة كأنها شيك على بياض ليترك الجمل وما حمل، ويكون بذلك مجرّد منفذ لدور أملته عليه جهة من الجهات، أو مؤسسة من المؤسسات القوية في البلاد، أو ليختزل وظيفته ويختصرها، في تحوّله إلى أداة مخصصة لتنفيذ مخطط، جرت هندسته ووضعت أسسه خلف الأبواب، بعيدا عن الشفافية التي يقتضيها أي مسلسل جدّي للإصلاح، وربما بمشاركة (وتأثير) فاعلين من مختلف المحاور والأقطاب الإقليمية والدولية.
ليس هناك أدنى التباس أو ذرة شك في أن الاستثناء، ومع تبنّي الدستور الجديد، تحول إلى قاعدة، والسلطوية والحكم الفردي أصبحا قانونا
تفصيل دستور على المقاس، والتسلح بنسبة مشاركة غير مقنعة، مقارنة مع عدد الناخبين المسجلين، ومع مختلف نسب المشاركة التي سجلت على امتداد الاستحقاقات التي شهدتها تونس الثورة يجب أن يشكل ناقوس إنذار، ومصدر قلق شرعي للرئيس، ومن يتبنّى أطروحته، حيث يتعين عليه إعادة النظر في رهان القوة الذي اختاره وسيلة لتدبير الصراع والخلاف مع خصومه، ومراجعة منهجيته في تقدير الأمور والوقائع وقراءة الواقع، وطريقة مقاربته لمؤسسات الدولة وكيفية فهمه الصراع السياسي. وأيضا مراجعة استراتيجيته التواصلية، علما أن كل المؤشرات والسياقات والمسارات تؤكد أن الرئيس قيس سعيّد واثق من نفسه ومن مبادراته، ومقتنع بما فعله وبما سيفعله في المستقبل، فقد أثبت، منذ إعلانه عن مسار 25 يوليو/ تموز 2021، أنه سيمضي إلى أبعد مدى وحتى النهاية، في تنفيذ مشروعه الذي يجسّد، وفق فقهاء في القانون الدستوري وخبراء علم السياسة، الحكم الفردي المطلق، المعزّز بجرعة معتبرة من الشعبوية التي تكره النخب وتمقتها، وتعتبرها عدوا لا مناص من محاربته وتشويه صورته لدى الشعب الذي ترى الشعبوية أنها الأجدر بتمثيله والأحق في هذا، وتبني مطالبه والتعبير عن معاناته وهمومه.
أحدث دستور الرئيس قيس سعيّد الذي أصبح نافذا منذ لحظة المصادقة عليه، ومكّنه من احتكار كل السلطات والصلاحيات، انقسامات حادّة غير مسبوقة في المجتمع التونسي، وبات مصدر تخوف جدي لدى شرائح واسعة ونخب وازنة تخشى من وقوع انتكاسة ديمقراطية لا أحد يرغب فيها. ويبدو جليا أن مشروع قيس سعيّد، بكل أبعاده الظاهرة والخفية لا يمكن أن يتحوّل إلى مشروع مجتمع وأمة وشعب بأكمله. ولا يمكن أن يترجم على أرض الواقع، وعمليا، شعار جمهورية جديدة، لأنه يتضمن عناصر الإقصاء والاحتقان ومليء بالألغام والمناطق الرمادية. هذا في وقتٍ كان ينبغي فيه أن يتحول قيس سعيّد إلى رئيس تجميع التونسيين وتوحيدهم، كما أن مشروع قيس سعيّد يهدد بعزل تونس عن العالم، وبات واضحا أنها توجد فريسة أقطاب إقليمية متصارعة ومتنافسة.
تونس في حاجة ماسّة الى وقف حملات التهييج والتأجيج والبلطجة بكل أنواعها، وتغليب المصلحة الوطنية على أي نزعة أو مصلحة شخصية
وكيفما كانت تبريرات مؤسسة الرئاسة والنخب التي تدور في فلكها، وكيفما كانت مرافعات معارضي توجّهات قيس سعيّد الذين يصفون كل ما أقدم عليه، وما أصدره من مراسيم وقرارات، انقلابا كامل الأركان على الدستور والمؤسسات ومقتضيات التحوّل الديمقراطي ومستلزماته، أقول كيفما كانت تبريرات هذا المعسكر أو ذاك وذرائعهما، فإن تونس ليست في حاجة إلى كل هذا المسلسل، من الشد والجذب والتوتر العاصف، وتصفية الحسابات بمنطق انتقامي، وظفت فيه مختلف الوسائل والأساليب والحروب النفسية والإعلامية والقانونية.
تعاني تونس من تصدّعات مؤلمة، طاولت تماسك مجتمعها ونخبتها السياسية والثقافية والإعلامية. ومؤكّد أن عوامل خارجية زادت الأزمة حدّة واحتداما، وأفرغت عليها مزيدا من الزيت، علما أن المحيط الإقليمي لتونس يوجد في أقصى درجات الاضطراب وعدم الاستقرار، بسبب حرب المصالح والصراعات الجيو - سياسية بين قوى دولية وإقليمية متعدّدة.. ولكن أمام كل هذا الحجم من الاحتقان والتأزم، وأمام الانسداد الديمقراطي واحتباس المؤسسات، يظهر جليا أن العلاج الحقيقي للداء هو اقتناع الجميع بأن تونس للجميع، تسع مختلف بناتها وأبنائها، وفضاء قادر على استيعاب كل التيارات والمرجعيات والأيديولوجيات، في إطار من الصراع الديمقراطي، والنقاش الهادئ، والحوار الوطني البناء. وهنا تبدو التنازلات المتبادلة أمرا حتميا وضروريا، لبلورة أرضية صلبة للتوافق والوئام الوطني. لأن تونس أعظم من الكراسي، ومن اختزال مخرجات الأزمة في مجرّد دستور جديد مثير للجدل، كونه منتوج سياق سياسي استثنائي بكل المقاييس. تونس في حاجة ماسّة الى وقف حملات التهييج والتأجيج والبلطجة بكل أنواعها، وتغليب المصلحة الوطنية على أي نزعة أو مصلحة شخصية أو حزبية أو فئوية.