انتكاسة أخرى لليسار المغربي
انتكاسة أخرى يتعرّض لها اليسار المغربي، بعد قرار الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد نبيلة منيب سحب الترشيح المشترك للانتخابات التشريعية المقبلة تحت يافطة تحالف ''فيدرالية اليسار الديمقراطي'' الذي يجمع، إضافة إلى الاشتراكي الموحد، الطليعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الوطني الاتحادي. وقد لا يكون من المبالغة القول إن قرار منيب يُعدُّ نهاية موضوعية لتحالف الأحزاب الثلاثة الذي تأسس في 2014، واعتُبر حينها خطوةً كبرى على درب اندماج مكونات اليسار وبناء الحزب اليساري الكبير، ولا سيما بعدما وصل اليسار الإصلاحي، بقيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إلى الباب المسدود، لأسبابٍ يطول الخوض فيها. وعلى الرغم من أنّ منيب حاولت الدفاع عن هذا الانسحاب، حين اعتبرته ''إنقاذاً لحزبها من المجهول'' ومقتصراً فقط على الانتخابات المهنية، المرتقب إجراؤها في الشهر المقبل (أغسطس/ آب)، فإنّ قرارها خلّف ارتدادات قوية، سواء داخل حزبها بعد انتقاد قياديين بارزين خطوتها التي رأوا فيها استفرادا بالقرار الحزبي، أو داخل حزبي الطليعة والمؤتمر، اللذين اعتبرا انسحابها ''انقلاباً على القانون الأساسي والورقة التنظيمية للفيدرالية في لحظةٍ حرجة، وبمبرّرات غير مقنعة''.
وإذا صحّت الرواية التي تربط قرار منيب باستشعارها عدم القدرة على حيازة وكالة لائحة الفيدرالية، في جهة الدار البيضاء سطات، بعدما أبدت اللجنة الجهوية للفيدرالية رغبتها في إزاحتها برفض مقترحها بالترشّح، بسبب وجود اتفاقٍ مسبقٍ بمنح وكالة اللائحة للمؤتمر الوطني الاتحادي، إذا صحّت هذه الرواية، فإنّها تؤكد أنّ اليسار المغربي لم يستوعب المتغيرات الفكرية والسياسية والثقافية التي حدثت خلال العقود الثلاثة المنصرمة، وما زال يجترُّ إرثاً ثقيلاً من حبّ الزعامة، ومجافاة الاختلاف، والركونِ إلى الوثوقية الفكرية، ورفض الاحتكام للديمقراطية في تدبير (حلّ) الخلافات الداخلية. بل حتى خطابه بشأن الملكية البرلمانية وفصل السلطات وربط المسؤولية بالمحاسبة، لا يستقيم، أو بالأحرى يفتقد المصداقية الأدبية والسياسية، في ظلّ عدم تمثّل معظم تنظيماته الثقافةَ السياسيةَ التي تحتضن هذه المبادئ، وهي ثقافةٌ يُفترض أن تمتح من مناهل الحداثة وليس التقليد.
تشهد السياسة المغربية تحولاتٍ عميقةً تنبئ بإعادة بناء توازناتها؛ ففي وقتٍ نجح النظام في إعادة تركيب الحقل السياسي بعد الانتكاسة التي مني بها الربيع العربي، أخفق الإسلام السياسي المعتدل في تعديل ميزان القوى، وكرّست الأحزاب التقليدية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني تراجعها أمام صعود أشكالٍ احتجاجية جديدة، وجدت في وسائل التواصل الاجتماعي فضاء عمومياً افتراضياً لبناء خطاب سياسي معارضٍ للطرائق المتبعة في إدارة الشأن العام.
وكان يُفترض أن تشكّل هذه التحولات حافزاً لفيدرالية اليسار الديمقراطي لبلورة ''طريق ثالث'' بين مشروع مجتمعي محافظ يقوده حزب العدالة والتنمية (الإسلامي)، وآخر ليبرالي يخدم دوائر المال والأعمال وتقوده الأحزاب القريبة من السلطة؛ طريق يجد عنوانه العريض في مشروع مجتمعي جديد يقنع المغاربة، أو قطاعا منهم على الأقل، ويعيد إليهم الثقة في العمل الحزبي والسياسي. لكنّ ما يحدث داخل الفيدرالية يجعل حظوظها في إحداث فارق في المشهد السياسي خلال الانتخابات المقبلة ضئيلة، خصوصاً في ظلّ الاختلاط الذي أصبح عليه هذا المشهد على غير صعيد، بعدما تداعت الحدود الفكرية والإيديولوجية بين الأحزاب، وفقدت الأخيرة قدرتها على إنتاج شرعية سياسية جديدة بعيداً عن أوهام الزعامة.
لم تُخفق الفيدرالية في مشروع الاندماج فقط، بل أخفقت، أيضاً، في معركة التعبئة الاجتماعية التي كان يُمكن أن تشكل رافداً مغذّيا لهذا المشروع أمام حالة الركود السياسي التي سببها استمرار "العدالة والتنمية" في إدارة الشأن العام عشر سنوات من دون حصيلة سياسية واجتماعية مقنعة. وبذلك يكون المأزق الذي تجتازه بنيوياً وليس ظرفياً، لأنّه يرتبط بعجزها، وعجز اليسار المغربي عموماً، عن مجابهة قضايا التغيير والإصلاح بخطابٍ جديد، يقطع مع التصلب الإيديولوجي، ويعيد بناء العلاقة مع الواقع بغية فهمه بعيداً عن سلطة الإيديولوجيا.