انتفاضةُ السويداء والاستعصاءُ المزمن في سورية المفيدة
كان يبدو من الاستحالة بمكان تحريك المستنقع السوري الراكد سياسياً قبل شهرين، عندما بدأت شرارات ثورية غير متوقّعة بالظهور. لم تكن، وللمفارقة، سوى انخراط الأقليات، (المهادِنَة سابقاً)، في حرب كرامة ووجود ضد نظام الأسد، كلّ بحسب مفهومه ورؤيته إلى مجريات الأمور، رغم أنّ النهج الطائفي المطبوع في ذهنية المؤسّسات الأمنية لهذا النظام ظلّ رئيسياً ومعتمداً في تعاطيه مع الأقليات الدينية والمذهبية في البلاد وتحييدها ما أمكن عن الانخراط في الاحتجاجات. والحديث عموماً عن الأصوات المعارضة التي بدأت تتعالى من معقل الطائفة العلوية، وبالأخص عن انتفاضة الدروز في السويداء التي لم تأتِ، بدورها، من فراغ، رغم أنّ نشاط المدينة المعارض كان يتأرجح بين صعودٍ وركود، ليُحسب لهذا الحراك تقليص فوبيا الآخر السوري "السُّني"، والتي استثمرها النظام عقوداً، بينما يصعُب عليه اليوم اللعب على الوتر الطائفي في مدينةٍ محسوبة على الأقليات تطالب بخطابٍ وطني عابر للطوائف وللأحقاد.
بالمطلق، لا يوجد دليلٌ دامغ على أنّ ثمّة حركة احتجاج منظّمة يمكن أن تخلع بشّار الأسد عن عرشه بسهولة، لكن حراك المجتمع الدرزي شكّل صدمة قوية لنظامٍ حمل شعار حماية الأقليات ليبرّر علّة وجوده. لذا يبدو اليوم مكبّل اليدين، لا يفعل شيئاً سوى الانتظار والترقّب، كذلك الرهان على واقع أنّ سورية هبطت كثيراً في سلّم الأولويات عالمياً. وجرياً على عادته، يتعاطى مع المتظاهرين على أنهم مرتزقةٌ وانفصاليون، فيما اقتصر الموقف المباشر من جانبه على ما أوردته مقالات "الوطن" و"البعث" التي وصفتهم بـ"الخارجين عن القانون والمهرّجين الموتورين"، واتهم العميد المتقاعد تركي الحسن أهالي السويداء بالعمالة الخارجية مقابل المال، واصفاً ما يحدُث من مظاهراتٍ بالمسرحية المأجورة. ردودٌ عبثية ليست في جوهرها إلا الصورة الأوضح لتخبّط الثور الجريح، فالجميع يعلم، في قرارة نفسه، جيداً أنه وعلى الرغم من ضعف السويداء اقتصادياً، إلا أنها تمتلك ثقلاً مهماً لنظام الأسد، سيّما أنها تشكّل ممرّاً أساسياً لتهريب الكبتاغون، إضافة إلى أنّ تموضعها إلى جانب درعا المماثلة في الحراك شكّل جيباً معارضاً، قد يتجاوز الخلافات التي عمل النظام على تغذيتها بين المدينتين خلال سنِي الثورة.
حراك السويداء بات اليوم الصوت الوطني الأبرز، المطالِب بحلّ سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254
بطبيعة الحال، يبدو أنّ فصلَ نهاية التراجيديا السورية بدأ بتجمّعِ آلاف الدروز في ساحة الكرامة، معبّراً عن تجرؤ شريحة مهمة من طائفة حرجة في موقعها السياسي وفي علاقتها الملتبسة مع النظام على المطالبة بخلع رأس الهرم المجرم، بعدما قرّرت الالتحاق أخيراً بركب الثورة السورية "المُبادة". ورغم ارتكابات عديدة عنفية تركت بصماتها الواضحة على سلوكيات مجمل الأقليات السورية، وأشعلت لهيب دوراتٍ إثر دوراتٍ من المخاوف المتبادلة، والعنف. مع هذا، يصحّ القول إنّ حراك السويداء بات اليوم الصوت الوطني الأبرز، المطالِب بحلّ سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254، علّه يكون الشرارة التي تطلق حراكاً سلمياً شاملاً يُخرج البلاد من حالة الاستعصاء، ويضعها على طاولة الخلاص الذي دفع السوريون أثماناً غالية من أجله.
وهنا يُطرح السؤال الجوهري: ما المتاح أمام النظام لمواجهة هذا الحراك في ظلّ استمرار تهاوي الاقتصاد؟ خصوصا وأنّ التظاهر يحدُث بسبب غياب الأمل، بالتوازي مع ذاك الإحساس العميق بأنّ كلفة السكوت غدت أغلى بكثير من خطورة التظاهر، بينما تبدو أولوية النظام حصر مظاهرات السويداء ودرعا، وليس قمعها، كون المحافظتين منطقتي أطراف وليستا مركزيتين، مقابل اعتماد سياسة الترهيب في مناطق العلويين عبر الاعتقالات وشراء الأصوات المعارضة. ليس امتناع النظام عن البطش دليلاً كافياً على تطوّرٍ في وعيه وتبدّل في سلوكه، هو الذي لم ينسَ بعد ما حصل مع الرئيس السوري الأسبق، أديب الشيشكلي، عندما قصف في خمسينيات القرن الماضي جبل العرب بالمدافع والطائرات، فاغتيل على يد أحد أبناء الطائفة الدرزية في البرازيل عام 1964، انتقاماً لقتل المدنيين الأبرياء.
أولوية النظام حالياً تتركّز في منع امتداد الحراك خارج جغرافية السويداء
تُقلق انتفاضة السويداء نظام الأسد بالتأكيد، وهو الأشبه بمريضٍ ميّت سريرياً يعيش على الحقن الروسية والإيرانية. هذا القلق المزمن إنجاز بارز مهما اختلفت التسميات والاستثمارات والخلفيات وتعدّدت المآلات، وحتّى لو ظلت الانتفاضة محصورة في حيّز صغير من البيئة الدرزية، ومن دون أيّ اتصال جدّي مع بقية المدن السورية.
في المقابل، لم تتبلور آلية واضحة لكيفية احتواء التظاهرات حتّى اللحظة، ما يوحي بأنّ أولوية النظام حالياً تتركّز في منع امتداد الحراك خارج جغرافية المدينة. بالتالي، قد تكون إحدى أدواته الاستثمار بالعصابات التابعة لإيران لتفكيكه. وبالطبع، اتباع سياسة المراوغة وكسب الوقت، من قبيل إرسال الوفود، حيث تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقطعاً مصوّراً يظهر عضوَي مجلس الشعب السوري، نواف الملحم ونشأت الأطرش، في مضافة الشيخ حكمت الهجري. ورغم وصف متابعين لها بأنها وساطة مباشرة من رئيس النظام عند شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز لوقف الاحتجاجات، إلا أنّ الأسد الذي يتعامل بحذر مع المدينة الثائرة، بعدما عمل على تقسيم المرجعية الدينية فيها، ما زال يتّبع سياسة "اللامبادرة" من خلال امتناعه عن تقديم أية عروضٍ حقيقية، طالما لم يمتدّ الحراك إلى مدنٍ أكثر حساسية مثل دمشق والساحل، أو لم يتم التحوّل للتنسيق على مستوى المنطقة الجنوبية ككلّ. والمأمول أن تُستنزف المدينة عبر إضرابها المفتوح، ما يؤهّل النظام أن يُقدّم لاحقاً تنازلاتٍ هامشية بغرض فضّ الحراك القائم.
لا يستطيع النظام في سورية شيطنة حراك السويداء، كونه صدّر نفسه حامياً للأقليات، ولا يستطيع لوجستياً وأد الاحتجاج بالقمع
والحال هكذا.. ليس ثمّة دليل قطعي على وجود استراتيجية واضحة ومتّسقة للنظام لاحتواء "الأقليات المنتفِضَة"، هو الذي يستند، في العمق، إلى مقولة الحتميات السلطوية، وربما العنصرية التي تنحو إلى تمكين آلة العنف في سبيل تحقيق مصالحه الاستراتيجية. وعليه، من يظن أنّ الحكاية ستنتهي هنا واهمٌ بالطبع. إنه الاستعصاء السوري المزمن بوجود نظامٍ متحجّر ومفلس بكلّ المقاييس، يُنظر إليه كمافيا دولية تبثّ سموم الكبتاغون في المنطقة بأسرها.
يزيد وضع النظام صعوبة أنه لا يستطيع شيطنة حراك السويداء، كونه صدّر نفسه حامياً للأقليات، ولا يستطيع لوجستياً وأد الاحتجاج بالقمع، فهو أضعف عسكرياً مما سبق، يطوّق بقية مناطق سيطرته خوفاً من انفلات العقدة تماماً، معوّلاً على تسرّب شعور اللاجدوى من الاحتجاجات، ما يمكّنه من الإحاطة بها بطريقة ما. نافل القول... كما أن الخيارات المطروحة للتعامل مع الأزمات السورية "الأصيلة والطارئة" محصورة بمزاج الحليفتين المتحكّمتين بالسياسة والميدان، إذا ما قمنا بجردةٍ سريعةٍ للمناورات الشريرة لنظام الأسد سنصل إلى محصّلاتٍ تبسيطية مُفرطة في الأهمية، هي أنّ الأخير يدرك جيداً أنّ لانتفاضة الدروز معنى خاصاً، لأنها انتفاضة أقلية علمانية مسالمة، لا تشكل تهديداً لأيّ طائفةٍ أخرى، لذا لا توجد مؤامرة كونية يمكن إلصاقها بها لإبادتها، في وقتٍ يفقد فيه تدريجياً سيطرته على سورية المفيدة، من السويداء جنوباً إلى دير الزور والحسكة وإدلب وريف حلب شمالاً. وإذا أضفنا روح التمرّد التي تشيع في مدن الساحل، فإنه بالكاد يسيطر على أكثر من قلب دمشق. هي جغرافية التمرّد الاجتماعي التي تصرخ بالصوت العالي: "نظام الأسد لم يعد قابلاً للتأهيل أو للتدوير، لم يعد قابلاً حتّى للحياة".