انتخبوا أردوغان ... وقاوموه
لو كان لي حقّ التصويت في تركيا لانتخبتُ رجب طيب أردوغان، من دون تردّد. ليس لأنه يمثّلني، ولكن لأنه أفضل المتاح. في الانتخابات (وهذا بديهي) لا نختار من نريد، إلا في حالاتٍ نادرة، إنما الأقل سوءاً. وما سمّيناه في مصر 2012 "عصر الليمون" وإطلاق حملة مدنية لانتخاب مرشح جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي (الذي لا يمثّلنا) بديلاً عن أحمد شفيق، مرشّح دولة حسني مبارك، في جولة الإعادة، هو مكون رئيس من أي انتخاباتٍ ديمقراطية، ليس في العالم العربي وحده، بل في العالم كله، وليس في الديمقراطيات الوليدة، مثل مصر وقتها، أو الهجينة، مثل تركيا الآن، بل الراسخة، والتي تتعرّض أحياناً للتراجع وفق مؤشّرات الديمقراطية، مثل الولايات المتحدة وغيرها. وما اختيار بايدن (الباهت وغير الشعبوي) بديلاً عن ترامب، سوى مثال من مئات.
من هنا، لا يعني التصويت "توقيعاً على بياض"، كما لا يعني الإقرار بكلّ سياسات المصوَّت له، إنما إقرارٌ واقعي بالمشتركات، مع الانتباه إلى مواضع الاختلاف، والإشارات الملحّة إليها، ومراكمة الجهود والضغوط والنضالات السياسية والحقوقية من أجل تغييرها، وصولاً إلى أفضل الصيغ الديمقراطية لتمكين المجتمع من شراكة حقيقية في حكم بلاده وتقرير مصيره. ومن هنا أيضاً يحصل مرشّحون، مثل أردوغان، على أصوات بعض خصومهم (الواقعيين)، نظراً إلى تميّزهم عن منافسيهم "المتاحين" في ملفاتٍ أكثر إلحاحاً على عموم المواطنين.
تزداد أهمية مرشّح مثل أردوغان بالنسبة إلى العرب اللاجئين أو المنفيين قسرياً إلى تركيا، لأنه الأكثر انحيازاً لهم، لأسبابٍ سياسية محضة. مفهوم، ومطلوب، أن يسعى العرب في تركيا إلى مصالحهم، ولا سيّما المجنسين، الذين يمتلكون صوتاً، ومفهوم أيضاً، رغم تجاوزه حدود المعقول، أن تأتي بعض صياغات التعبير عن الانحياز لمرشحٍ من دون آخرين، والحشد له، حماسية ومبالغاً فيها، ولا سيما في هذه الانتخابات، حيث تعلو موجات رفض أردوغان عن سابقاتها. تتنوّع المبالغات، وأسبابها، ويأتي بعضها أيديولوجياً، ويصف المعركة بين أردوغان وخصومه بأنها بين الإسلام، ممثلاً في أردوغان، وخصوم الإسلام، ممثلين في خصوم أردوغان، الذين كانوا بالأمس القريب (في الخطاب نفسه) "المعارضة التركية الشريفة" التي رفضت الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخَب. قد يكون ذلك أيضاً مفهوماً، بالنظر إلى أسبابه وسياقاته، مفهوماً وغير مقبول. أما غير المفهوم وغير المقبول أن تتبنّى نخبٌ عربية، وبعضها مصري، ومحسوبٌ على ثورة يناير، مع الأسف، خطاباتٍ مفادها بأن "أردوغان ديمقراطي". فكما أنّ من البديهي أنّ أردوغان أفضل المتاح، وأنّه الأكثر إنجازاً في ملفات التنمية والخدمات، فإنّ من البديهي، والمعلوم من الشأن التركي بالضرورة، أنّه الأكثر تحايلاً على التجربة الديمقراطية في تركيا، والأكثر تعطيلاً لها، سواء في سياسات حكمه، أو مواجهاته مع معارضيه، أو حتى داخل حزبه ومع أقرب رفاقه وشركاء تجربته، ليس ابتداءً بتغييره نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، ومدّه فترة حكمه، ومنح نفسه سلطاتٍ واسعة، وغير مسبوقة، (قد تذهب إلى أحد منافسيه) وليس انتهاء باعتقاله صحافيين وإعلاميين ونشطاء حقوقيين ومدوّنين على مواقع التواصل الاجتماعي بتهم سيئة السمعة، مثل نشر أخبار كاذبة، أو الانضمام إلى جماعة إرهابية، وإقراره قوانين تمكّنه من التوسّع في استخدام هذه التهم، وتوزيعها على معارضيه، من دون تمييز، وسواء كانوا ينتمون بالفعل إلى المنظمات التي يصنفها نظام أردوغان إرهابية أم لا، الأمر الذي يشبه، إلى حد كبير، ممارسات عبد الفتاح السيسي ونظامه في مصر.
كان الخلاف على "شكل" الدولة وهويتها أحد أهم أسباب فشل التجربة الديمقراطية في مصر، بعد ثورة يناير، كذلك الاختلاف بشأن مفهوم الديمقراطية، وضرورة تجاوزه الآليات (الصندوقراطية) إلى السياسات، فإذا كنّا، بعد عشرية سوداء مع نظام عبد الفتاح السيسي، نرى في أردوغان "نموذجاً ديمقراطياً" مرجوّاً، ونصرح بذلك، من دون خجل، فإنّ شيئاً لم يتغيّر، كما أن بقاء السيسي وتمدّده، رغم فشله الذريع، ليس سوى نتيجة طبيعية نستحقها.