انتخابات رئاسية مصرية في راهن مختلف
ليست العبرة في خوض انتخابات رئاسية بالأدوات السلطوية القديمة التي ستجعلها تُفضي إلى النتيجة المعروفة سلفاً للجميع، حين تتكلّل، في النهاية، بإعادة تنصيب الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي في موقعه لفترة رئاسية ثالثة، ثم تصنيف هذا الأمر انتصاراً أحرزته السلطة في مصر لترفعه سيفاً بوجه المجتمع المصري. بل تكمن العبرة في المقدرة على قياس التحدّيات الاقتصادية والمالية وتبعاتها الاجتماعية التي استجدّت في السنوات الأخيرة، وتفاقمت آثارها في السنتين الماضيتين، حتى باتت تُنذر بانهيار اجتماعي واقتصادي ومالي، وربما أمني. وكذلك تكمن في قراءة هذه التحدّيات، والأهم الاعتراف بها مقدمةً لوضع الخطط من أجل حلها، وهذا ما لم نجده في برنامج المرشّح السيسي، لأن السبب ببساطة هو عدم تقديمه برنامجاً انتخابياً، كما هو معتادٌ في أي انتخابات في العالم.
ولأن مصر اليوم تختلف عما كانت عليه قبل الحملتين الانتخابيتين، الأولى التي جاءت بالسيسي والثانية التي مدّدت له، فقد كان متوقعاً أن يقدّم الرئيس برنامجاً انتخابياً للانتخابات التي جرت بين 10 و12 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، يوصِّف أوضاع البلاد الحالية، ويعترف بالأزمات التي تعاني منها، وبالتالي، يقدّم برامج الإصلاح التي يمكن لها أن تحلّ تلك الأزمات. لكن، وعلى العكس من ذلك، قال رئيس حملة المرشّح عبد الفتاح السيسي، المستشار محمود فوزي، إن ما طرح ليس برنامجاً انتخابياً للسيسي، بل "رؤية لاستكمال مسار الإصلاح الذي بدأ سنة 2014". فإذا كان ما أفضت إليه عشر سنوات من حكم السيسي من أزمات اقتصادية وتضخّم وانهيار للعملة الوطنية وازدياد الديون وتراجع الإنتاج المحلي ومستوى المعيشة، وتقليل حصّة البلاد من مياه النيل، والفوضى في مصادر الطاقة، علاوة على القمع غير المسبوق ومصادرة الحرّيات، وغياب الخطط والرؤى الواضحة، هو نتاج ما سمّي "مسار إصلاحٍ"، يمكننا بكل بساطة توقّع ما ستؤول إليه أحوال مصر من تعاظم الأزمات في حال استُكمل ذلك المسار.
ويختلف راهن مصر الحالي، والتحدّيات التي تواجهها، عما كان عليه الأمر قبل عشر سنوات، خصوصاً مع بروز تحدٍّ جديدٍ لم يكن النظام يضعه في حسبانه، وهو التحدّي الديموغرافي والأمني، نتيجة الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة واحتمال تهجير الفلسطينيين منه إلى مصر. ويمكن لهذا التحدّي أن يفاقم أوضاع مصر وأزماتها، على الرغم من كل الوعود التي تناقلها الإعلام عن مساعدات خارجية واستثمارات وقروض، إن قبلت القاهرة بتهجير الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء. بل يمكن له أن يتسبّب بظهور تحدٍّ وجودي، لا يتحمّل الاقتصاد الهشّ والواقع الاجتماعي المتردّي آثاره المحتملة، وتلك التي لا يمكن التنبؤ بظهورها.
ليست مشاهد الرقص سوى إشارة إلى غياب الوعي، وإلى حالة الهزال والهوان التي وصل إليها الجو العام في مصر
من هنا، لم يكن متوقّعا في بلاد تواجه هذا الواقع أن تجري فيها انتخاباتٌ رئاسية، أقلّ ما يقال عنها إنها نسخة طبق الأصل عن الانتخابات التي جرت في الدورتين السابقتين، وباستخدام الأدوات ذاتها، واتباع النهج ذاته، والتي لا تؤدي جميعها إلا إلى زيادة الركود في الحياة السياسية والاقتصادية، وهو آخر ما تحتاج إليه مصر. كما لم يكن من المتوقّع ألا تأخذ القيادة المصرية باعتبارها التهديدات الإسرائيلية الجدّية التي أطلقها الإسرائيليون بعد حربهم على غزّة، وسعيهم إلى تغيير خريطة المنطقة والشرق الأوسط، والتي أفصح عنها رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، بعد يومين من عملية طوفان الأٌقصى، حين تحدّث عن حرب طويلة، يوم خاطب رؤساء المجالس المحلية في غلاف غزّة قائلاً: "أطلب منكم أن تقفوا بثبات لأننا سنغير الشرق الأوسط"، فدولة تغيب عنها الخطط الاقتصادية الواضحة، وتصادر السلطة فيها الحقوق والحريات وتحتكر القرار، وتملأ سجونها بالمعتقلين السياسيين، وتفرِّط بثرواتها ومصادر طاقتها وأرضها، سيكون من الصعب عليها الاستجابة لهذا التحدّي الوجودي.
لذلك كانت مؤلمة مشاهد الرقص أمام المراكز الانتخابية، والتي أذهبت هيبة الأشخاص التي قاموا بها وأظهرتهم فاقدي احترام ذواتهم، وربما احترام المحيطين بهم، لأنهم بكل بساطة غير مُجبرين على هذا السلوك. وهو السلوك النابع من الخوف من الأجهزة الأمنية، أو الذي مصدُره الدافع لكسب رضاها ليبقى جلد ممارسيها سالماً وبمنأى عن جوْرها. مع العلم أن الجميع في البلدان القمعية (راقصاً كان في الانتخابات أو مقاطعاً لها) متهم وموضع ريبة، ويمكن أن تطاوله هذه الأجهزة لمبرّرات تقدّرها هي وحدها. وليست مشاهد الرقص سوى إشارة إلى غياب الوعي، وإلى حالة الهزال والهوان التي وصل إليها الجو العام في مصر، فرأينا استسهال التصويت أكثر من مرّة في هذه الانتخابات، وقبلها ترشُّح شخصيات اقتصر وجودها على أداء دور الكومبارس من أجل إكمال المشهد الانتخابي، وتظهير النظام على أنه يقبل التعدّدية، ولا يحتكر رئيسه السلطة، ولا يخاف دخول منافسين له السباق الانتخابي للوصول إلى كرسي الحكم.
مصر اليوم تختلف عما كانت عليه قبل الحملتين الانتخابيتين، الأولى التي جاءت بالسيسي والثانية التي مدّدت له
الأخطر في الانتخابات أخيرا غضّ المجتمع الدولي نظره عنها، وغياب الأصوات المطالبة بالشفافية في جميع مراحلها، وبعدم مصادرة حقوق المرشّحين المستقلين، وعدم منع من يرغب من الترشّح، وغياب المطالبة بإجرائها تحت إشراف مراقبين دوليين لضمان نزاهتها. ولا يدفعنا إلى الاستنتاج أن ذلك ربما كان مقصوداً به عدم ازعاج النظام الآن لفرض سياسة التهجير من غزّة، وغيرها من السياسات، عليه، إلا تذكّرنا مواقف منظمّات دولية وحقوقية كثيرة من انتخابات سنة 2018، وسنة 2014. إذ أصدرت عدّة منظمّات حقوقية بياناً قبل انتخابات 2018، بيّنت فيه أن السلطات المصرية لم تراعِ أبسط متطلبات الانتخابات النزيهة، حين خنقت الحرّيات، واعتقلت مرشّحين للانتخابات ومناصرين لهم، وأدّت بمرشّحين آخرين إلى الإقلاع عن الترشّح خوفاً من الملاحقة. وانتقدت يومها تلك المنظمّات دول الغرب لدعمها النظام، على الرغم من تسبّبه بأسوأ أزمة حقوقية تصيب مصر منذ عقود. إلا أن هذا كله غاب في الانتخابات الحالية، ما أعطى النظام الراحة لتكرار سياساته السابقة، وربما في التطرّف في ممارسات مقبلة.
قد تكون الجرائم التي ترتكبها القوات الإسرائيلية بحقّ المدنيين في غزّة منذ أكثر من شهرين الإشارة الأوضح لما يمكن أن يكون عليه جو التوحش والعدوانية في منطقتنا في الفترات المقبلة، سواء كان الإسرائيليون من يديرون هذا التوحّش أو الأنظمة القمعية المجاورة، إلا أن ما يواجه مصر قد يكون كارثياً أكثر مما يمكن أن يتصوّره أي تحليل. إذ ربما سيجعلها دور الدولة الذي انحصر في إدارة الانهيار الراهن غير قادرة حتى على حماية رؤوس رموزها في الآتي من التطورات، فما بالك بأداء دورها في حماية جغرافيا البلاد ومجتمعها، هذه المهمّة التي تنازَلت عنها منذ سنوات.