اليوم التالي لانهيار إسرائيل
بدأ الحديث عن "اليوم التالي" لانهيار حركة حماس والمقاومة الفلسطينية ربّما في الشهر الأول لعدوان الكيان الصهيوني على غزّة، وبدا أنّه آتٍ لا محالة. والخلاف ليس بشأن أنّه قادم، بل بشأن شكله، وتفصيلاته. يعني كان ثمّة قناعة راسخة لدى أطراف العدوان، عرباً وعجماً، بأنّ نهاية "حماس" والمقاومة أضحت على بعد صاروخ أعمى ينطلق لمُجرّد التنكيل بالغزّيين، أو نسف مربّع سكني، أو قطع شبكات الهاتف والمياه والإنترنت وتعطيلها، وتدمير المستشفيات وقطع طرق المساعدات. ولكن هذا كلّه حصل، وأكثر منه بآلاف المرّات، ولم يزل، ولا يبدو أنّ اليوم التالي للقضاء على "حماس" على مسافة قريبة من الظهور، بل على العكس، بعد تسعة أشهر ونيّف من أشرس معركة غير متناظرة شهدها القرن الحادي والعشرون، نرى "حماس" والمقاومة تعيدان تجديد نفسهما وتثخنان في قتل العدو، وتبتدعان أساليب جديدة في النيْل منه. وبالتعبير العسكري العلمي؛ لا تزالان تُحكِمان امتلاك القيادة والسيطرة عبر القدرة على تنفيذ عمليات نوعيّة تحتاج تخطيطاً "متأنيّاً" (!)، بل تصوير وقائع كلّ مرحلة من مراحل التخطيط والتنفيذ، وإجراء عمليات مونتاج احترافي لعرضها على مشاهدي محطّات التلفزة ومنصّات الإعلام المجتمعي، وكأنّ خلف الكاميرا يجلس مُخرج سينمائي مُحترِفٍ لا مقاتل أمضى أكثر من تسعة أشهر متنقّلاً بين الأنفاق، وبالكاد يحصل على شربة ماء أو وجبة فقيرة كلّ 24 ساعة، إن لم يكن أكثر، وربّما ليس لديه ترف انتعال حذاء أو الاستحمام، أو حتّى نيل قسطٍ مناسب من النوم.
وفي مقابل هذه الصورة للمقاومة، تقف صورة جيش مرفّه مدجّج بكلّ ما أنتجته مصانع أسلحة الأرض، ومحميٌّ بوسائل الحماية التقليدية والتكنولوجية كلّها، والسيبرانية المستعينة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، مع سيطرة كاملة على كلّ ما يحيط المقاومة من برّ وبحر وسماء. ومع هذا، يبدو هذا الجيش مُنهكاً مُثخناً، يهرب "صناديده" من فأر قفز فجأة بين أرجلهم، ولم يُسجَّل له أنّه برع إلّا في مجال واحد فقط، ارتكاب أبشع الجرائم، و"المرجلة" على المدنيين والعزّل والأسرى، من الرجال والأطفال والنساء، و"الإبداع" طبعاً، في نسف المباني وتدمير مقوّمات الحياة كلّها، من منشآت ومرافق وخدمات، وحتّى مزارع دجاج ومصانع وبيوت زراعية محمية... والحديث يطول عن سجلّ الجرائم التي ارتكبها هذا الجيش الأكثر همجيّة في التاريخ الحديث، حتّى باتت همجيّته محلّ استنكار وتبرُّؤِ يهودٍ كثيرين.
الحديث عن انهيار "الدولة" الأكثر مِنعةً في منطقتنا العربية لم يَعُد مُحرّماً أو مُستهجناً، أو مُتخيَّلاً
وفي المجمل، لم يأت اليوم التالي بعد "حماس"، بل برز سؤال نقيض طرحه كثيرون من خبراء الاستراتيجيا والعلوم العسكرية، والدراسات المستقبلية والاجتماعية والتاريخ، وآخرون مُحلّلون ومُفكّرون مُتحرّرون من فيروس الصهيونية، ومن الخوف من تهم اللاساميّة: ماذا عن اليوم التالي لانهيار إسرائيل؟ وإن لم يَطرح هذا السؤال في صيغته الحرفية إلّا عدد قليل جدّاً من القوم، إلا أنّ فحواه جرت على ألسنة أعداد ضخمة، فالحديث عن انهيار "الدولة" الأكثر مِنعةً في منطقتنا العربية لم يَعُد مُحرّماً أو مُستهجناً، أو مُتخيَّلاً، بل بات المشروع الفلسفي، الذي قامت على أساسه أصلاً (الفكر الصهيوني)، كالجذام أو كالتهمة التي يتبرّأ منها يهودٌ كثيرون، باعتباره فكراً إجرامياً غير قابل للحياة، وجرَّ قطعان المستوطنين من اليهود، الذين تقاطروا لاحتلال أرض فلسطين، إلى حتفهم، وباتت "إسرائيل" البقعة الأكثر خطراً على اليهودي في سطح الكرة الأرضية، وكان يُراد لها أن تكون "الحضن الآمن" للباحثين عن "الوطن القومي". وبمعنى آخر، أصبح الحديث عن انهيار المشروع الصهيوني ورقة بحث مطروحة على طاولات مراكز التفكير والتخطيط، وإنْ لم يُفصِح أحدٌ من هذه المراكز الفكرية أو الاستشرافية عن ماهيّة اليوم التالي لانهيار حلم "الأرض الموعودة" إلّا أنّنا لا نستغرب أن يكون هذا الأمر، اليوم، أحد أهم الموضوعات التي تدرسُها العصابات التي تحكم العالم، وتهيمن على حركته، وتسيطر على مقدّراته، ذلك أنّ شكل عالمنا بعد قيام إسرائيل لن يكون هو نفسه بعد زوالها. هناك خريطة جديدة سترسم خاصّة للشرق، وسنكون في حاجة لبديلَين اثنين عن مارك سايكس و فرانسوا بيكو، اللذين رسما حدود دولنا قبل نحو قرن. وليس مبالغاً فيه أو شططاً القول أن بديلَي الإنكليزي والفرنسي هذين، لن يكونا غير عربيَين مسلمَين حُرَّين، ولن أستغرب حينما نرى أحد هؤلاء من المدرسة ذاتها التي تخرّج فيها يحيى السنوار ومحمّد الضيف وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي. ولعلّ هذا الأمر بالذات، أو الخشية من وقوعه فعلاً، هو ما يُفسّر الشراسة والتوحّش في شيطنة "حماس" والهجوم عليها، وعلى حاضنتها، وعلى كلّ من ينتصر لها، حتّى لو بدعاء لها في بيت الله العتيق.
بات الفكر الصهيوني كالجذام أو كالتهمة التي يتبرّأ منها كثير من اليهود
قد يبدو اليوم التالي لانهيار إسرائيل حلماً بعيد المنال، إن لم يكن مُستحيلاً لدى من أدمنوا العبودية، لكنّه اليوم أقرب من أيّ وقت آخر، فالانهيار فيزيائياً لا يتمّ فجأةً وبجرّة قلم، خصوصاً حين يتعلق الأمر بقلعةٍ كإسرائيل أقيمت كي تبقى، وأحيطت بأحزمة أمان أسطورية سرّية وعلنية، عربية وأعجمية، محلّية ودولية، فوق أرضية وتحت أرضية، وسماوية، وسُخرّت لها من الإمكانات ما لم يُسخّر لكيان من قبل. بدأ الانهيار حين تحوّل "أزعر الحي" و"القبضاي" فيه إلى مسخرة، مُسِح بوجهه البلاط، ونُزِع عنه وهم الردع، ولم يعد "البعبع" الذي يُخوَّف به المرتعدون جبناً. بدأ الانهيار بسلسلة ضخمة من انهيارات حجارة دومينو اقتصادية وعسكرية واجتماعية ونفسية، قد يستغرق الانتهاء من انهيارها وقتاً ما، ألله أعلم كم سيطول، لكنّه بدأ، واليوم التالي بعد الانهيار آتٍ لا محالة، وقد نراه نحن الذين نعيش عقدنا السادس أو السابع من العمر، وستصبح نبوءة العقد الثامن حقيقة واقعة لا خوفاً من رؤية مُتوقَّعة.
ختاماً، مما قاله المُحلّل العسكري، والضابط السابق في جهاز مخابرات الجيش الأميركي، غريغ ستوكر: "حمـاس حقّقت جميع أهدافها من منظور استراتيجي؛ إعادة إحياء القضية الفلسطينية وحقّ تقرير المصير في مستوى عالمي، وتدمير الأسطورة العسكرية والاستخباراتية لإسرائيل في السابع من أكتوبر، بينما لم تستطع إسرائيل تحقيق أيّ من أهدافها. الأنظمة المجرمة لا تدوم". وكتب هذا الأسبوع أحد أكثر مُعلّقي صحيفة معاريف أهميّة؛ بن كسبيت: "المزيد فالمزيد من الإسرائيليين يُفكّرون بصوت عالٍ، إذا كان هذا هو المكان ليربّوا فيه الأجيال القادمة. المزيد فالمزيد من الإسرائيليين لم يعودوا مقتنعين بأنّ إسرائيل الحالية هي الدولة إيّاها التي أقامها هنا الآباء المؤسّسون قبل 76 سنة. نحن ننزف في المجالات كلّها؛ المقاتلين، المدنيين، الأطباء، العلماء، رجال التكنولوجيا، وأنواع أخرى طيّبة من الإسرائيليين ممّن يتلقّون عروضاً مغريةً من خلف البحر. بعضهم يمسح الدموع، يجمع الأمتعة ويغادر. بعضهم يتردّد. بهذه الوتيرة، فإنّ الطبقة التي تصون هنا الاقتصاد، الأمن، الأكاديميا، الصناعة والتكنولوجيا، ستضعف وستتبدّد. هذا الخطر واضح وملموس أكثر من خطر الإبادة الجسدية على أيدي حزب الله وإيران، وكلّ ما بينهما. يدور الحديث عن خطر واضح وفوري".
وبعد، إن لم يكن هذا هو الانهيار، فما هو؟