اليمين المتطرف في أوروبا موجة عارضة أم أزمة بنيوية

اليمين المتطرّف في أوروبا موجة عارضة أم أزمة بنيوية؟

09 أكتوبر 2022
+ الخط -

استطاع حزب "إخوة إيطاليا"؛ اليميني القومي المتطرّف، بقيادة الصحفية جورجيا ميلوني، وضمن ائتلاف حكومي أوسع، كسب الانتخابات التشريعية في إيطاليا في 25 الشهر الماضي (سبتمبر/أيلول). وبذلك يكون أول حزب متطرّف يتولى قيادة حكومة في دولة مؤسِّسة للاتحاد الأوروبي، عام 1957، وصاحبة ماضٍ أليم مع التنظيمات المتطرّفة؛ الحزب الفاشي القومي، بقيادة الصحفي بينيتو موسوليني، الذي أحكم قبضته على البلاد أزيد من عقدين (1922-1943).

قبل ذلك بأسبوعين، وتحديدا يوم 11 سبتمبر/أيلول، حقّق حزب "السويديون الديمقراطيون"؛ اليميني الشعبوي تقدّما ملفتا للنظر، في دولةٍ اسكندنافيةٍ مشهود لها باحتضان قيم الانفتاح والتعدّدية والتنوع الثقافي، بعدما حصد أكثر من 20% من أصوات الناخبين، ما بوّأه المركز الثاني في الانتخابات التشريعية. هكذا يتحوّل الحزب إذن، وخلال 12 عاما فقط، من مجرّد صوت هامشي داخل البرلمان، بعد حصوله على 6% في انتخابات 2010، إلى ثاني قوة سياسية، وراء الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الحاكم).

كاد السيناريو الإيطالي أن يتكرّر في فرنسا، خلال الدور الثاني للانتخابات الرئاسية في إبريل/ نيسان المنصرم، خلال المواجهة التي جمعت بين الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون؛ ممثل حزب الجمهورية إلى الأمام، ومارين لوبان؛ زعيمة حزب التجمّع الوطني، اليميني المتطرّف، لولا تصويت الفرنسيين، إجبارا لا اختيارا، لصالح القوى السياسية التقليدية، حتى يصدّوا الباب في وجه مرشّحة "الجبهة القومية" سابقا من دخول قصر الإليزيه.

وتنهل حكومة المحافظين في بريطانيا، سابقا مع بوريس جونسون وحاليا مع ليز تراس، إلى حد بعيد، من أجندة اليمين المتطرّف، فبرنامج حزب المحافظين مع هذين يكاد يكون نسخة مخفّفة من برامج الأحزاب اليمينية المتطرّفة في أوروبا. بدءا من عقيدة معاداة الوحدة الأوروبية، بالانتصار لخيار خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وليس انتهاءً بالسياسات المتطرّفة في مجال الهجرة؛ بتبنّي خطّة تصدير المهاجرين نحو أفريقيا (رواندا)، التي أحدثت شرخا سياسيا ومجتمعيا في البلاد، قبل التراجع تحت وقع القرارات والأحكام القضائية.

يوشك اليمين المتطرّف على الحضور في عموم خريطة القارّة العجوز، بما في ذلك دول كانت، حتى وقت قريب، مهد التسامح والتعايش

يوشك اليمين المتطرّف على الحضور في عموم خريطة القارّة العجوز، بما في ذلك دول كانت، حتى وقت قريب، مهد التسامح والتعايش، مثل النرويج وسويسرا وبلجيكا. وانتعش التشدّد في دول أوروبا الشرقية التي انطلقت بفعل سياسة تصدير المهاجرين إلى الاتحاد الأوروبي، غداة الانضمام إليه، على غرار بولندا ورومانيا وبلغاريا... قبل أن ترتدّ عن سياسة تنعم بثمارها حتى وقت قريب، جرّاء انتشار التيارات اليمينية في مؤسّسات البلاد.

ساهم الانحياز الأيديولوجي في قوة الخطاب اليميني، وانتشاره في القارة الأوروبية، خصوصا بعد ميل القوى السياسية التقليدية الوسطية؛ في اليمين واليسار على حد سواء، نحو إذابة الحدود الفاصلة بينها وبين القوى السياسية الراديكالية؛ فاليمين المحافظ في فرنسا؛ مثل "الجمهوريون" و"الجمهورية إلى الأمام" لا يختلف كثيرا في خطابه، ولا حتى في برامجه الانتخابية، عن اليمين المتطرّف "التجمع الوطني" و"الاستعادة" (الإسلام، المهاجرون...). وليست قوى اليسار أفضل حالا من اليمين؛ فحزب العمّال في بريطانيا عالقٌ في منطقة رمادية غير واضحة جعلت خطابه السياسي بلا لون، وأقصى اليسار في إسبانيا؛ حزب "بودسموس"، يغرف خطابه حيال عدد من القضايا من معين اليمين المتطرّف.

في غمرة هذا التهافت الملفت على التيارات المتطرّفة، تحتاج الذاكرة الأوروبية إلى من يُذكّرها بوقائع الحملة السياسية الأوروبية ضد النمسا عام 2000، عقب تشكيل أول "اتحاد يميني"، في القرن 21 بين حزبي الشعب (المحافظين) و"الحرية النمساوي" (اليمين القومي المتشدّد). كانت هذه السياسة بتحريض من فرنسا الرئيس جاك شيراك (اليمين المحافظ) ورئيس الوزراء ليونيل جوسبان (اليسار الديمقراطي)، ليقرّر حينها الاتحاد الأوروبي تعليق علاقاته الطبيعية مع فيينا، ما فرض على الزعيم السياسي المتشدّد، الراحل يورغ هايدر، التخلي عن قيادة الحزب.

يستنجد اليمين المتطرف بالماضي (النازية والفاشية والقومية...) عبثا، بحثا عن حلول لمشكلات الحاضر والمستقبل (العولمة، المناخ، الهجرة....).

لا ينكر عدد من الساسة الأوروبيين اليوم إعجابهم بالفكر النازي والفاشي، ومن جملتهم جورجيا ميلوني، المرأة التي تتولّى رئاسة الحكومة الإيطالية حاليا. بيد أن قدرة هؤلاء وغيرهم على إعادة "أمجاد" النازية والفاشية معدومة. ولنا في إيطاليا المثال الأبرز على قدرة الدولة على صيانة ديمقراطيتها، عام 2018، حين كانت مهدّدة بعد وصول حزبين شعوبيين إلى الحكم: "رابطة الشمال" و"النجوم الخمسة". لكن النظام (السيستيم) أو "الدولة العميقة" بلغتها كان أقوى، فأعاد الأمور إلى نصابها في بلدٍ سمتُه الأساسية عدم الاستقرار السياسي؛ فالصراع السياسي في البلد، كان وراء تغيير 41 رئيس وزراء، و63 حكومة، خلال 70 سنة.

قد تبدو حيلة الإرباك السياسي أو العرقلة السياسية مجديةً للحيلولة دون صعود قوى اليمين المتطرّف، في عواصم أوروبية عديدة (مدريد، باريس، برلين، فيينا..). لكنها قطعا لا تقدّم حلولا للأزمة مركّبة، بقدر ما تدفع نحو تمطيطها وإطالة أمدها، فالمشكلة تتعدّى مجرّد إطاحة هذه الحكومة أو ذاك التحالف، نحو ما هو أسئلة أعوص من ذلك حول ماهية الدولة وبنيتها داخل القارّة الأوروبية.

تجتاح أوروبا، منذ بداية الألفية الثالثة، أزمة مركّبة يتداخل فيها الاقتصادي بالاجتماعي والثقافي بالأيديولوجي، ويبقى عنوانها العريض عجز النخب السياسية في الدول الأوروبية عن استيعاب هذا المزيج المتداخل أولا، ناهيك عن اجتراح حلول لأزمة بنيوية متشابكة. يظهر أن الأحزاب السياسية التقليدية في أوروبا هرمت، إلى درجةٍ لم تعد قادرة على مسايرة ما يجري من حولها من تطوّرات، ما جعلها غير قادرة على مخاطبة الجماهير؛ فالبون شاسعٌ بين حقيقة الأوضاع في هذه الدول وأيديولوجيا (وخطاب) نخب سياسية خارج التاريخ.

التقطت تيارات اليمين المتطرّف هذه الحقيقة، لتبدأ في الانتشار كالفطر، مستغلةً عجز القوى السياسية التقليدية وفشلها في التدبير، من أجل تحقيق مكاسب آنية، لا تتعدّى التنفيس عن الجماهير بتبنّي خطابات شعبوية، وتقديم حلول ترقيعية مؤقتة، لا تحلّ الأزمات بقدر ما تؤخّر موعد انفجارها، ما يزيد محاولات حلها في المستقبل تعقيدها... هو ذا اليمين المتطرف الذي يستنجد بالماضي (النازية والفاشية والقومية...) بحثا عن حلول لمشكلات الحاضر والمستقبل (العولمة، المناخ، الهجرة...).

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري