الولاية الأميركية الواحدة والخمسون والصراع الدولي

25 أكتوبر 2023
+ الخط -

في سابقة نادرة الحدوث، حضر كلٌّ من وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، والرئيس الأميركي جو بايدن، على حدة، ثلاثة اجتماعاتٍ منفصلة لمجلس وزراء الحرب الصهيوني؛ وربّما أكثر، الأوّل في 2023/10/12، والثاني في 2023/10/13، والثالث في 2023/10/19. أثار حضور القادة الأميركيين جدلاً واسعاً في الوسط الصهيوني الإعلامي والشعبي، نظراً إلى طبيعة الاجتماع، وخطورته الأمنية والاستراتيجية، فاجتماع مجلس وزراء الحرب داخلي أمني وسرّي، غير مسموحٍ لغير أعضائه الخمسة بحضوره، فكيف ولماذا يحضُره قادة أميركيون، والأهمّ ما دلالات حضورهم؟

استحضار هذه الوقائع مهمٌّ لإعادة توضيح طبيعة هذا الاحتلال، باعتباره أداة أميركية إمبريالية، تخدم مصالح النظام الدولي، ومركزه الأميركي الحالي، كما خدمت مصالح مركزه السابق المملكة المتّحدة، وكما قد تخدم مصالح مركزه أو مراكزه القادمة، في حال استمرار الاحتلال فترة طويلة. لذا وبعد تعرّض الاحتلال لضربة أمنية واستراتيجية خطيرة جداً في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، مثّلت تهديداً وجودياً حقيقياً على المدى المتوسط، كان لا بدّ من تدخلٍ أميركي سريعٍ ومباشرٍ، على المستويين القيادي والاستراتيجي.

يعتقد بعضهم أنّ إرسال الولايات المتّحدة حاملة طائراتها إلى المنطقة العربية، هو ما يعكس تدخّلها المباشر لإنقاذ الاحتلال، لكنه في الحقيقية يعكس خطوة دعائية وترويجية وسياسية، وربّما معنوية أكثر من كونها انعكاساً لتدخّلٍ مباشرٍ، إذ من المستبعد مشاركة القوات العسكرية الأميركية البرّية والبحرية والجوية في اعتداءات الاحتلال الحالية على أرض فلسطين، سواء في قطاع غزّة، أو في الضفّة الغربية، أو حتّى على حدود الاحتلال مع لبنان، وذلك لاعتباراتٍ عديدة، أهمّها أولويّات المصالح الأميركية. وهو ما ذهبت إليه تصريحات المسؤولين الأميركيين بشأن احتمال نشر قواتٍ أميركية داخل المناطق التي يسيطر عليها الاحتلال الصهيوني، إذ شدّدوا على عدم مشاركتهم؛ في حال حدوث ذلك، في الحرب، وحصر دورهم في الدعم الطبي وإدارة الخدمات اللوجستية، بعيداً عن الخطوط الأمامية.

تعرّض الاحتلال الإسرائيلي لضربة أمنية واستراتيجية خطيرة جداً في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، مثّلت تهديداً وجودياً حقيقياً على المدى المتوسط

انهارت ثقة الإدارة الأميركية بحكومة الاحتلال وقادته، أو شارفت على الانهيار، وهو ما قد يشمل كلاً من حكومة الاحتلال ومعارضيها، على ضوء الفشل الاستخباراتي والاستراتيجي الهائل الذي عكسته عملية طوفان الأقصى، فالعملية وفق ما أعلن عنها الناطق باسم كتائب عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة حماس، أبو عبيدة، بدأت من حيث انتهت معركة سيف القدس، عام 2021، وهو ما يعني أنّ الفشل الاستخباراتي والاستراتيجي ممتدٌ منذ ذلك الحين، فشلٌ في الكشف عن خطط "حماس"، وفي قراءة تحرّكات مقاتليها، وتدريباتهم، وهو ما يتجاوز مسؤولية حكومة الاحتلال الحالية، ويشمل حكومته السابقة، إلى جانب قياداته الأمنية والعسكرية منذ عام 2021.

إذاً تضعضعت ثقة الحكومة الأميركية بقيادة الاحتلال السياسية والأمنية والعسكرية منذ مدّة، بسبب قصور أدائها السياسي والعسكري، ثم انهارت، أو شبه انهارت بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وهو ما دفع القيادة الأميركية إلى الإشراف المباشر على رد الاحتلال الأمني والاستخباراتي، وربّما السياسي والإعلامي. من هنا كانت مشاركة قادة أميركا في اجتماع مجلس وزراء الحرب الصهيوني، ومن هنا قد نشهد مزيداً من مشاركتهم في الأيّام المقبلة، خصوصاً إذا شهدنا مزيداً من التخبّط الصهيوني، ولما لا من الهزائم، أو الانتكاسات.

إرسال حاملة الطائرات الأميركية إلى المنطقة العربية، وإصدار قرار وزير الدفاع الأميركي القاضي باستعداد قرابة 2000 جندي أميركي، لاحتمال نشرهم في "إسرائيل"، واستنفار القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة العربية، كلّها تصب في سياق إشراف الولايات المتّحدة وإدارتها الاعتداء الصهيوني على أرض فلسطين وشعبها اليوم، وجميعها تُستخدم في تبرير مشاركة قادة أميركا في اجتماعات مجلس وزراء الحرب الصهيوني.

من المستبعد مشاركة القوات العسكرية الأميركية البرّية والبحرية والجوية في اعتداءات الاحتلال الحالية على أرض فلسطين، سواء في قطاع غزّة، أو في الضفّة الغربية

لكن؛ خاضت الولايات المتّحدة حروباً عديدة في العالم، بمشاركة من عشرات الدول، منها العدوان على العراق، ومن ثم احتلاله، ومنها الاعتداء على أفغانستان، ومن ثم احتلالها، وأخيراً الانخراط الأميركي غير المباشر في حرب أوكرانيا، أو في التصدّي الأوكراني للغزو الروسي على أراضيها. كما شاركت الولايات المتّحدة من أجل ذلك كله في عشرات الاجتماعات الأمنية والعسكرية على المستوى الدولي، لكنها لم تشارك في الاجتماعات العسكرية والأمنية الداخلية لأي من حلفائها أو شركائها، على اعتبارها قوّة حليفة وداعمة فقط، لا تملك صلاحية التدخّل والاطّلاع على أسرار الدول الأمنية والعسكرية الحساسة.

لكن حالة الاحتلال الصهيوني خاصّة ومختلفة، فالاحتلال، وفق تعبير الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه، "أفضل استثمارٍ فعلته الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط"، وكما قال في زيارته أخيراً دولة لاحتلال "لو لم تكن هناك إسرائيل لعملنا على إقامتها". وتشير هذه التصريحات، كما تشير مشاركات قادة أميركا في اجتماعات مجلس وزراء الحرب الصهيوني، إلى أنّ الاحتلال هو الولاية الأميركية الواحدة والخمسون. وعليه، تتحمّل الإدارة الأميركية مسؤولية حمايته، ما دفعها إلى الانخراط في اجتماعات مجلس الحرب الصهيوني مباشرة، في ظلّ انعدام ثقتها بالإدارة الصهيونية السياسية والعسكرية والأمنية.

إذاً تنطلق الإدارة الأميركية من مسؤوليتها المباشرة تجاه حماية الاحتلال، وكأنه ولاية أميركية تتمتع بحكمٍ ذاتي سياسي واقتصادي، وهو ما يفسّر حجم الدعم المالي واللوجستي والإعلامي والسياسي والاقتصادي، الذي يحظى به الاحتلال على مدار العقود الماضية مجتمعة، والتي لا تحظى به أو حتّى بنصفه أي من الدول، إذا ما استثنينا العامين الأخيرين، اللذيْن شهدا انعطافاً أميركياً واضحاً تجاه أوكرانيا، التي حظيت بدعمٍ أميركي كبيرٍ جداً، بلغ منذ بداية الحرب الأوكرانية الروسية أكثر من 76.8 مليار دولارٍ، وفقاً لـ "كيل انستيتيوت فور ذا ورد ايكونومي" الألماني.

انهارت ثقة الإدارة الأميركية بحكومة الاحتلال وقادته، أو شارفت على الانهيار، وهو ما قد يشمل كلاً من حكومة الاحتلال ومعارضيها

قبل بضعة أيّام؛ طلب الرئيس الأميركي جو بايدن من الكونغرس الموافقة على مخصصاتٍ أمنية ضخمة بقيمة 106 مليارات دولار، منها 61 مليار دولار لأوكرانيا، و14 مليار دولار للاحتلال الصهيوني! يكشف هذا التباين الكبير بين الدعمين الأوكراني والصهيوني عن أولويّات أميركا الحالية، وعن استراتيجيتها الأمنية، التي تجد في الحرب الأوكرانية صراعاً يهدّد مكانتها الدولية، وربّما يطيح بمصالحها حول العالم كلّه، في حين ترى في الاحتلال الصهيوني استثماراً ضرورياً للحفاظ على مصالح أميركا في المنطقة العربية ومحيطها، وبين الخطر المُحدق بمكانة أميركا ومصالحها الدولية، وبين خطرٍ محدقٍ بمصالحها ومكانتها في المنطقة العربية، تسعى الإدارة الأميركية اليوم إلى ضبط الاعتداءات الصهيونية وإدارتها، كي لا تخرُج عن السيطرة، متحوّلة إلى حربٍ إقليمية واسعة، وربّما حربٍ دولية واسعة، لصالح استمرار تركيزها على مواجهة الخطر الاستراتيجي الأكبر؛ وفقاً للحسابات الأميركية، والمتمثّل في كلٍّ من الصين، ومن بعدها روسيا.

لذلك؛ يعتقد الكاتب وعلى الرغم من الرغبة؛ بل الحاجة، الصهيونية الواضحة لاجتياح قطاع غزّة، فإنّه بات احتمالاً غير مرجّحٍ، في ظلّ أولويّات أميركا الدولية، وفي ظلّ الصراع الدولي المتصاعد على قيادة العالم ومركزه، وفي ظلّ تصاعد احتمالات توسّع دائرة القوى المنخرطة في الصراع إقليمياً ودولياً. رغم ذلك، لا يستبعد الكاتب اجتياحاً برّياً محدوداً وسريعاً، ولمساحة محدودة جغرافياً، ولهدفٍ محددٍ وواضحٍ، مثل اغتيال قائدٍ سياسي أو عسكري كبيرٍ ينتمي لحركة حماس، أو بغرض تحرير بعض أسرى الاحتلال لدى فصائل المقاومة.

أما الاعتداء الجوي المتواصل الآن، فيرجّح الكاتب استمراره فترة قصيرة، تتراوح بين أسبوعٍ وعشرة أيّامٍ على الأكثر، كجزءٍ من آليات ضغط الإدارة الأميركية على الكونغرس للموافقة على المخصصات الأمنية الطارئة، فمن الصعب استمرار الاحتلال بهذه الوتيرة من جرائم الإبادة الجماعية والعقاب الجماعي والتطهير العرقي أمام مرأى العالم ومسمعه، خصوصاً بعد كسر معظم شعوب العالم جدار الصمت، تحت ضغط جرائم الاحتلال المستمرّة والمتواصلة، وبعد انكشاف جزءٍ كبيرٍ من روايته الملفقة، التي حاول فرضها بعد "7 أكتوبر".