الولايات المتحدة والصين ... المواجهة المؤجّلة
لم يكن متوقّعا أن تحمل زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى الصين، نهاية الأسبوع الماضي، جديدا بشأن التوتر الذي يطبع العلاقات بين البلدين. ومن خلال مخرجات هذه الزيارة، يمكن القول إن هناك توافقا بينهما على إدارة هذا التوتر وتجنُّب تحوُّله إلى مواجهةٍ مفتوحةٍ ليست في مصلحتهما، على الأقل حاليا. ويبدو أن واشنطن وبكين تدركان أن النظام الدولي الحالي لا يتحمّل نشوب مواجهة أخرى، بعد التداعيات الدراماتيكية التي خلفتها الحرب الروسية الأوكرانية على غير صعيد.
لا تزال أسباب التوتّر بين الولايات المتحدة والصين قائمة، تتقدّمها الحرب التجارية المستعرةُ والمنافسة التكنولوجية بينهما، وأزمة جزيرة تايوان، وملفّ الحقوق والحرّيات في الصين، من دون السهو عن صراع القوة والنفوذ في بحر الصين الجنوبي والخليج والشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية. غير أن هذه الأسباب تبقى، في الوقت ذاته، محكومةً بالاعتماد المتبادل بين البلدين، ما يمنحهما هامشا أكثر للتحكّم في التوتر وإدارته بأقلّ التكاليف، على اعتبار أن جذوره تكمن في الاقتصاد الذي يمثّل التحدّي الأكبر بالنسبة لهما. فالصين، المرتهنةُ للحسابات الاقتصادية في بناء شبكة نفوذها ومصالحها العابرة للحدود، تبدو معنيةً بتنويع علاقاتها وتحالفاتها الإقليمية والدولية، مستثمرةً تناقض المصالح والقوّة في النظام الدولي، خصوصا بين الولايات المتحدّة والاتحاد الأوروبي. وكان دالّا في هذا الصدد ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته إلى الصين في إبريل/ نيسان الفائت، بشأن ضرورة تقليل الاتحاد اعتماده على الولايات المتحدة.
تعرف الصين جيدا أن زمن الأيديولوجيات والشعارات البرّاقة قد ولى مع نهاية الحرب الباردة. ولذلك لا يَهمُّها نشر نموذجها السياسي (نظام الحزب الواحد) الذي لم يعد في قلب النقاشات الفكرية والسياسية في العالم. لكنها، في المقابل، معنيّة بتوسيع نفوذها الاقتصادي وحمايته أيضا. وبقدر ما يتطلّب ذلك قدرا من السياسة والدبلوماسية، يتطلب كذلك منظومةً عسكرية متطوّرة قادرة على تحقيق الحد الأدنى من توازن الردع. ولعلّ في ارتفاع معدّلات نفقاتها العسكرية في الأعوام الأخيرة ما يؤكّد تطلّعها لتحديث منظومتها العسكرية وتطوير جيشها على المدى البعيد.
بالطبع، تنتظر الصين، مثل غيرها من الدول الكبرى، ما ستؤول إليه حرب تكسير العظام بين روسيا والغرب في أوكرانيا. وسيشجعها خروج روسيا منتصرةً على التمدّد أكثر. وسيكون مستبعدا جدا أن تنجرّ الولايات المتحدة إلى مواجهةٍ غير محسوبة معها. في حين ستقلص هزيمةُ الروس هامش الحركة والمناورة أمامها. من هنا، تُعتبر الأزمة الأوكرانية محطّة رئيسة بالنسبة لصنّاع القرار في الصين لإعادة تشكيل رؤيتهم إلى النظام الدولي الذي يفتقد، من وجهة نظرهم، التوازن والقبول بالتنوّع الثقافي، خصوصا في قضايا شائكة مثل الحقوق والحرّيات والهوية. وتقع قضية تايوان في صلب هذه الرؤية، بالنظر إلى أهميتها الجيوسياسية والثقافية بالنسبة للأمن القومي الصيني. وعلى الرغم من أن السياسة الصينية بشأنها لا تنزع نحو التشدّد، إلا أنها تعتبر الجزيرة جزءا من الصين الشعبية. لكنها، بالنسبة لواشنطن، تبقى ورقة ضغطٍ قويةٍ في مواجهة بكين.
ما يقلق الولايات المتحدة نجاح الصين في حيازة موارد قوّة مختلفة، تسمح لها بالمشاركة في إعادة صياغة قواعد اللعبة في النظام الدولي، ولا سيما بعد الإنجازات التي حقّقتها الدبلوماسية الصينية، وأهمها رعاية الاتفاق السعودي الإيراني، في مارس/ آذار الماضي، والذي شكّل صدمة لدى دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، بالنظر إلى ما ينطوي عليه ذلك من دلالاتٍ دبلوماسيةٍ وسياسية.
يصعُب الجزم بأن المواجهة بين الولايات المتحدة والصين باتت وشيكة، فالبلدان يعيان التكاليف الجيوساسية والاقتصادية التي ينطوي عليها ذلك. وفي وقتٍ تسعى فيه الصين إلى تجنّب كل ما من شأنه أن يجرّها إلى الصدام مع الولايات المتحدة، تمضي الأخيرة في ''سياسة احتواء الصين'' بما يقتضيه ذلك من تدابير لمواجهة الخطر الصيني المتنامي.