الوقوع الفلسطيني المتكرّر في الفخ الأميركي

14 مايو 2021
+ الخط -

مرّة أخرى يتجدّد النقاش، فلسطينياً، حول الموقف الأميركي في خضم العدوان الصهيوني المتصاعد على الشعب الفلسطيني. ومرّة أخرى، يتصرف بعضهم وكأنهم مفاجئون من انحياز إدارة أميركية جديدة لصالح إسرائيل. سبق أن كتبتُ موضحاً، غير مرّة، أن الإطار العام للموقف الأميركي من القضية الفلسطينية هو الانحياز والتواطؤ لصالح الكيان الصهيوني. هذا ما تجزم به الحقائق الراسخة الموثقة منذ عام 1917، وذلك عندما تردّدت حكومة رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج في إصدار وعد بلفور قبل أن تضمن رضى الولايات المتحدة وتأييدها. وقتها، تكفلت الحركة الصهيونية بالأمر، ونجحت في إقناع إدارة الرئيس الديمقراطي وودرو ويلسون بذلك.

منذ ذلك الحين، مروراً بمحطتي النكبة عام 1948 والنكسة عام 1967، وما تلتهما من نكبات ونكسات، لم تحد الإدارات الأميركية المتعاقبة، جمهورية وديمقراطية، عن دعم إسرائيل والانحياز إليها، سواء رغبة أم ضعفاً أمامها وأمام اللوبي الداعم لها في الولايات المتحدة. ولمن سيسأل عن مثال على تواطؤ الضعف أمام إسرائيل أذكّره بالمحاولات الجادة للرئيس الأسبق باراك أوباما لإقناع حكومة بنيامين نتنياهو، عامي 2009 و2010، بتجميد الاستيطان في الضفة الغربية وشرقيِّ القدس، على أمل استئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، وهو الأمر الذي انتهى إلى فشل مخزٍ.

القيادة الرسمية الفلسطينية تحصد بذار أخطائها الاستراتيجية، وهي لا تزال تزرع البذور ذاتها

المشكلة هنا أن بعضهم، فلسطينياً، يتقمص شخصية صاحب الذاكرة القصيرة، أو ربما المصاب بالزهايمر أمام هذه الحقيقة. أسابيع قليلة بعد فوز الرئيس الحالي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، سارعت السلطة الفلسطينية إلى إعادة ما تصفه بـ"التنسيق الأمني" مع الدولة العبرية، والذي كانت قد علقته في مطلع العام نفسه، بسبب إعلان الرئيس السابق دونالد ترامب خطته المعروفة بـ"صفقة القرن"، والتي تنسف ما تبقى من فتات الحقوق الفلسطينية. حينها علّل رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية العودة إلى "التنسيق الأمني" بما وصفه بتصريحات بايدن الأكثر إيجابية حول القضية الفلسطينية إذا ما قورنت بأفعال ترامب. لن أسهب كثيراً في تفصيل مواقف بايدن مرشحاً، أو بعد انتخابه وتنصيبه رئيساً. لم يتردّد بايدن يوماً في تأكيد انحيازه لإسرائيل. من ذلك، تدخّله شخصياً في البرنامج الوطني الانتخابي للحزب الديمقراطي، في أغسطس/ آب الماضي، وحذفه كلمة "احتلال"، في الإشارة إلى الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية وشرقي القدس وقطاع غزة، ثمَّ تشديده وتشديد أركان إدارته على أنهم لن يتراجعوا عن اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولن يعيدوا السفارة الأميركية إلى تل أبيب .. إلخ.

العدوان الصهيوني الوحشي الحالي على الشعب الفلسطيني يستلزم مقاربة جذرية جديدة في التعامل معه

هل كانت هذه الحقائق غائبة عن القيادة الفلسطينية الرسمية؟ قطعاً لا. ولكنها ديدن من لا منطق لديه، لأنه يعلم أنه حشر نفسه في زاوية ضيقة ليس له منها نفاذ. لعقود طويلة، تعاملت القيادة الرسمية الفلسطينية مع المفاوضات مع إسرائيل كلاعب شطرنج هاوٍ. تلكم كارثة بحد ذاتها. أما "الوسيط النزيه"، أي الولايات المتحدة، فإنه لم يخف يوماً أن "النزاهة" بالنسبة له تعني الانحياز الصارخ لصالح إسرائيل. من ثمَّ، ولأن القيادة الرسمية الفلسطينية تحصد بذار أخطائها الاستراتيجية، وهي لا تزال تزرع البذور ذاتها، فإنها تحاول أن تضلّل شعبها عبر التدليس عليه، وكأن إدارة ترامب تمثل النقطة المرجعية في سوء الموقف الأميركي. صحيحٌ أن إدارة ترامب أوجدت حالةً من التماهي مع أجندة اليمين الصهيوني المتطرّف، بحيث تحوّلت إلى قناة لتمريرها ومحاولة فرضها على الفلسطينيين، والمنطقة عموماً، إلا أن هذا لا يعني أن إدارة بايدن الحالية حليف للفلسطينيين. وهذا لا يعني، أيضاً، أن الإدارات السابقة لم تكن منحازة لإسرائيل. تاريخ الظلم والعسف الأميركي بحق فلسطين والفلسطينيين لم يبدأ بترامب، ولن ينتهي ببايدن.

كما إدارة أوباما قبل عشر سنوات، تمارس إدارة بايدن تواطؤ ضعف جديدا أمام إسرائيل. لم يكن الشرق الأوسط، بما في ذلك القضية الفلسطينية، أولوية لدى هذه الإدارة. هي ترى في الصين أولاً، وفي روسيا ثانياً، أهم تحدّيين جيوستراتيجيين للولايات المتحدة. لذلك هي تريد الانسحاب من أفغانستان، والعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وإنهاء حرب اليمن. أيضاً، لذلك هي لم تعيّن، إلى اليوم، سفيراً في إسرائيل، وتأخر اتصال بايدن بنتنياهو شهراً بعد تسلمه الرئاسة. في حين جاء أول اتصال رسمي أميركي رفيع مع القيادة الفلسطينية الرسمية في خضم العدوان الإسرائيلي الحالي على الشعب الفلسطيني. محاولات التخفّف الأميركي من صداع الشرق الأوسط هدفه التفرّغ للصين وروسيا. ولكن، وبغض النظر عن مقاربات واشنطن للشرق الأوسط، فإن إسرائيل قادرة دائماً على إفسادها، وبالتالي إفساد بعض مقارباتها الاستراتيجية الأوسع المرتبطة بها.

المراهنون على الأوهام وعلى واشنطن يمارسون خداعاً آخر للذات في انتظار الكارثة المقبلة

في خطابه يوم الأربعاء الماضي، تحدث رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عن ضرورة وضع كل الخلافات الفلسطينية – الفلسطينية جانباً، على أساس أن "القدس وفلسطين وحّدتنا، فلا يفرّقنا شيء، ولا يجوز أن يفرقنا شيء". كلام جميل، غير أنه تكرّر كثيراً وسمعناه مرات ومرات. لا أحب أن أكون صوت الشؤم هنا، ولكني على يقين من أنه لن تلبث أن ترجع "حليمة إلى عادتها القديمة"، إن عاجلاً أو آجلاً. وللتذكير فقط، ساعد الأمن الفلسطيني قوات الاحتلال الإسرائيلي في ملاحقة منفذ عملية زعترة منتصر شلبي واعتقاله، مطلع شهر مايو/ أيار الحالي، وكانت انتقاماً للانتهاكات الإسرائيلية في القدس، وخصوصاً في حي الشيخ جرّاح حينها.

العدوان الصهيوني الوحشي الحالي على الشعب الفلسطيني يستلزم مقاربة جذرية جديدة في التعامل معه. وحدة الشعب الفلسطيني في كل ساحاته للتصدّي لهذا العدوان ينبغي أن توقظ كل من طال عليه أمد السبات. في قطاع غزة، في الضفة الغربية، في فلسطين المحتلة عام 1948، وفي الشتات، هبَّ الشعب الفلسطيني كله دفاعاً عن القدس ومقدّساتها وأهلها. واليوم، يهب الشعب الفلسطيني كله مؤازرة لغزة. الشعب الفلسطيني يستحق قيادة جديدة تمثل تطلعاته وتضحياته وصموده وبطولاته. قيادة تجسّد وحدة الشعب الفلسطيني العضوية، وإرادته الصارمة في سبيل نيل حرية وطنه من بحره إلى نهره. أما المراهنون على الأوهام وعلى واشنطن، فإنهم يمارسون خداعاً آخر للذات في انتظار الكارثة المقبلة. صحيح أن هناك تغيرات جادّة في صفوف الحزب الديمقراطي لصالح الشعب الفلسطيني، ولكن ترجمتها إلى تغيير حقيقي وذي معنى في المقاربة الأميركية للصراع ستأخذ وقتاً، وهذا ما لا يملكه الفلسطينيون على الأرض الآن. دعوا هذا الأمر لفلسطينيي أميركا، ولكن لا تختزلوا مستقبل الشعب والقضية في هذا التغيير، حدث أم لا.