الوحي الصوفي في "الخيميائي"
مجرد أن تُمطر عليك رسائل الشرق في عملٍ روائي رائع أنيق، احتفيَ به عالمياً وتصدّر قوائم المبيعات تاريخياً، تحضر لك نظرية إدوارد سعيد عن الشرق في "الاستشراق" رغم أنّ باولو كويلو برازيلي، لكنّ روايته التحفت بالإرث الإسباني واستدعت الأندلس، في تاريخٍ رمزيٍّ يقارب زمن الميراث الصليبي بعد مذابح التفتيش، فتتيقظ فيك روح النقد الشرس لسعيد، كيف استُدعي الشرق هنا؟ وهي مسألة تعرّض فيها كتاب "الاستشراق" لنقد غربي مركّز، حين اعتَبر خصومه أنّ استدعاءه نصوصاً من الأدب الغربي، للتدليل على نظريته عن العنصرية الكولونيالية، كان مبالغاً فيه.
لكنّ حاستك البحثية تتوجه بعد ذلك إلى مدار آخر، مختلف كلياً، وإنْ بقيت صورة الشرق والوطن العربي حاضرة فيه، فتتَعمَّدُ أمام جمال القصة وروعة تنقلاتها وبساطة سرديتها، وخيالها الجذاب، إلى حبس روح الباحث فيك، وإطلاق القارئ المستمتع بجمال الرواية وعولمتها الروحية، أين هي رسالة الشرق، وهل سيُقرّ باولو بقراءتنا، أم لن يقبل؟ غير مهم، فنحن هنا معه نعتمد مبدأ الحداثة الأدبية؛ موت (غياب) المؤلف، ونقرأ النصّ بواقعيةٍ تتداخل مع خيالها.
منذ غادر الشاب الإسباني مرعى غنمه، ووصل إلى التاجر المبهم لجزّ صوف خرافه، بدأت رحلة الشرق في عيني الحسناء الأولى في قلب فارس الخيمياء الجديد، فالعينان الأندلسيتان ترمزان إلى تلك الأجساد الإسبانية، التي بقيت فيها روح عربية، ويقولون إنّها تتزايد اليوم بين الإسبان المُكتَشِفِينَ لأصولهم العربية، وإنّ عدد المورسكيين يتكثف (الجماعات الأندلسية القديمة التي أخفت إسلامها وأعلنت التنصّر للنجاة).
ولقد شدّني أنّ باولو استدعى، خصوصاً في القسم الختامي، روح الراهب والكنيسة، وعقيدة الأبوة والابن المسيحية، رغم أنّ الرواية بدت، في كلّ سياقها، تسامحية، تجمع بين فلسفة الإيمان الروحي الصوفي المطلق بالخالق، لكنّها في استدعاء الحالة الإسلامية لم تكن في سياق تبشيري. ولستُ هنا أضع نص كويلو في هدفٍ تبشيري، حتى لو كان استدعاءً للجانب المسيحي في ذاته أو في قناعته، فلا مشكلة لديّ هنا مطلقاً في النص الأدبي وسردياته. لكنّ الخيميائي الجديد، الذي تداخلت رحلته مع المغرب العربي قبل الصحراء، كان في سياق إسبانيا الجديدة، وهذه بالذات أبعد ما تكون عن روح العدالة المسيحية في القصة، فقد غرقت بإثم العنف والدماء بلا حدود.
نعرض للتقاطع الأدبي والفلسفة الروحية كرواية، ولسنا نناقش جدل المفاهيم الصوفية الروحية وطقوسها، وأين يقف منها العلم المعرفي
ربما سعى باولو إلى أن يُضفي أو أن يؤصل لصفة الرحمة والعدالة والإيمان الكنسي، وكأنهُ يقول هناك صورة أخرى لإسبانيا، لكن القارئ الذي يعرف ما جرى في الأندلس يصعُب عليه التقاط خيال كيلو المسيحي الإنساني، ولعله قصد دمج مفهوم التصوّف المطلق، الذي يشمل الفلسفة الروحية القديمة في الغرب، بعوالم التصوّف الشرقي التي هيمنت على قصته.
تفسير الإشارة أو روح الإشارة، هو بذاته أحد مسارات التصوّف الإسلامي للباطن الإنساني. وتبعاً لذلك، تستطيع أن تعرف تسلسل الفكرة الروحية ووحدة الوجود، ومصطلحات الصوفية المسلمين فيها، وهتافات قلوبهم ورؤية الحضرة لما وراء الطبيعة الشاهدة، والفناء في الله والقوة المستدعاة منه وبه، كلها كانت مهيمنةً على خطاب الرواية وأخلاقيتها وروحها. وهنا نعرض للتقاطع الأدبي والفلسفة الروحية كرواية، ولسنا نناقش جدل المفاهيم الصوفية الروحية وطقوسها، وأين يقف منها العلم المعرفي.
لقد ارتوت رواية "الخيميائي" من التصوّف الإسلامي حتى ثملت به، وكان القارئ يترنّح مع الكاتب، تماماً كما كان جلال الدين الرومي يرقص على دقّات صائغ الذهب، حين ميلاد مولويته، بل تظهر حكايات الشخصيات من ملك سالم (القدس) حتى راهب الدير الأخير، لمن قرأ ديوان المثنوي وتعاليم شمس التبريزي، أنّها مستوحاة من ذلك الخطاب، بل لو أنّ أحد المختصّين قال إنّ الرواية استلهمت حوارات شمس التبريزي واختباراته لجلال الدين الرومي، لما بَعُدَ عن الحقيقة.
لستُ هنا أقصد أن باولو استنسخ المسرح الصوفي الشرقي وأخفاه، ولكن يصعب علي كلياً أن أقتنع بأنه ولدت في وجدانه كل تلك الصور، من دون أن يكون قد طاف بالشرق الصوفي، بل وتضلّع منه، كما تضلّع الخيميائي الصغير من عيني فاطمة الفيومية.
الكنز الإلهامي الذي سار مع الخيميائي الصغير، يقوم على ثلاثيةٍ مشهودة في التصوّف الإسلامي للمطلق الروحي
حرصت الرواية، أيضاً، على حضور مفاهيم إسلامية عن الشريعة في رحلة الخيميائي، وسرَدَتها من دون تدخل أو تشويه، وإنْ كانت لفلسفة بعض العبادات علاقة بالوحدة الإنسانية والصفاء الروحي، الذي دُمج في الكنيستين، القبطية والإسبانية القديمة، لكنّ هذا طبيعي لروح التدين الخاصة، أو للرغبة الذاتية في تصوير الكنيسة الجديدة أو خلقها في روح الأدباء المؤمنين بالمطلق، وهي قضية حاضرة قديماً، في نصوص الوجدان المسيحي، حتى في رسالتي التسامح لفولتير وجون لوك.
كان الكنز الإلهامي الذي سار مع الخيميائي الصغير، يقوم على ثلاثيةٍ مشهودة في التصوّف الإسلامي للمطلق الروحي، وهو الإنسان القطب الذي يحرّك عوالم الطبيعة، بقوة رابطته اللدنية، وبالتفسير الباطني للمشهد وبالقلب التعبّدي بالإشارات، وروح الحب المطلق التي تتنزّل على الروح الصوفية فتنشر تسامحها وعدلها الذي يشمل كل الناس، كل هذه الأركان التي غرقت فيها الرواية متطابقة مع التصوّف الإسلامي، بل تكاد تكون مستنسخة منه.
ورغم وجود نزعة تصوّف مسيحي وفلسفة قديمة، لكن هذا السبك المتداخل لم تُعرف به في هذه الصيغة الدقيقة إلّا حالة التصوّف الإسلامي، مما جعل التسليم له غربياً خبراً يتكرّر، ولا أدري لماذا حرص باولو على نزع كليات التوصيات الروحية، ونقلها من القطب الصوفي الإسلامي إلى الراهب المسيحي.
ومرّة أخرى، لست أقصد هنا مسالة انحياز، وهي واردة لحق كلّ إنسان، غير أنّ سياق التعاليم الصوفية المكثف اختلف مع مراجع الإلهام الأخيرة لروايته، من دون أن يُنكر دمجه صوت حكمة العارفين المتعدّدة في الشخصيات العربية التي قابلها الخيميائي الصغير... يبقى أن نؤكّد أنّ "الخيميائي" رواية مبدعة بملامس إنسانية رشيقة مذهلة.