الهروب من أمام الشاشة المنزلية

06 يونيو 2023
+ الخط -

ليست هي المرّة الأولى التي أعلن فيها خسارة الجولة مع شاشة التلفزيون والفرار من أمامها مذعوراً من هول ما تعرضه القنوات الإخبارية من مشاهد مروّعة يصعب على الإنسان المرهف متابعتها من دون انفعالات تُخرجه عن صوابه، وقد تتعب قلبه لفظاعة ما يتم بثه من صور قتلى بالجملة، ومواكب جنازات، ودمار بيوت على رؤوس أصحابها، وغير ذلك الكثير مما درجت عليه القنوات الإخبارية نقله من عين المكان بتلقائية مفرطة.
في آخر مرة حدث ذلك معي كان يوم مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية من دمشق قبل نحو عقد مضى، اذ وددت حينها أن أمسك طرف ثوبي بأسناني، وأطلق ساقيّ للريح هرباً من مشاهد الأطفال القتلى، حيث علمت في ما بعد أن كثيرين مثلي انتابتهم مثل هذه المشاعر الرهيبة، وقالوا في سرّهم "لم يعد في وسعنا مشاهدة نشرات الأخبار"، بعدما اشتد الجزع من المشاهد المبثوثة على مدار الساعة في عدد من الديار العربية، وتحوّل الفرار من أمام الشاشة إلى ما يشبه ظاهرة عامة واسعة الانتشار، حتى إن بعضهم راحوا يقولون: لقد أغلقنا التلفزيون بعدما امتلأت نفوسنا حد التخمة بالصور المروّعة.
عادت هذه الحالة إلي مجدداً في الآونة الأخيرة على وقع ما يتم بثه على نحو يومي من الأراضي الفلسطينية المحتلة، من مشاهد بالغة القسوة على النفس، حيث حزمتُ أمري على معاودة الفرار من أمام الشاشة، جرّاء عدم القدرة على التحمّل والرغبة في مداراة الحالة الصحية، مع الإدراك سلفاً أنه إذا كانت مقاطعة النشرات الإخبارية مسألة سهلة لغير المشتغلين بالهمّ العام، وهم الأكثرية الكاثرة، فإن اتخاذ هذه الخطوة من النخب السياسية والكتّاب والصحافيين تبدو غير قابلة للتطبيق زمناً طويلاً، طالما أنهم جزء من ماكنة الإعلام التي تعمل على مدار الساعة، وفوق ذلك هم أصحاب رأي، ولديهم مواقف سياسية، ومتورّطون في السجال، الذي لا نهاية له عن المجريات الراهنة.
على أن المسألة التي تستحق النقاش أكثر من غيرها على هذا الصعيد تظلّ ماثلة أساساً في مشروعية بثّ هذا الكم من الصور التي تقطّع نياط القلب، وجواز نشر هذا الفيض من المشاهد الفيلمية المتدفقة عن مجازر وحشية لا يحتملها الضمير الإنساني، الأمر الذي يصعب فيه على المرء التفرّس في وجوه الأطفال الأبرياء وجثامين الشهداء المغدورين في جنين ونابلس وغزّة وغيرها. 
ومع أن الطابع الوحشي كان ملازماً لكل جولات الحروب الأهلية والنزاعات على السلطة، وكانت مظاهر القسوة فيها أشد هولاً من الصراع على الموارد والحدود والنفوذ، إلا أن ما يتواتر اليوم من أنباء صادمة للوجدان، وما تتناقله شاشات التلفزيون من مشاهد تقتيل بدم بارد، وانتهاكات بشعة للحرمات والأعراض وأبسط حقوق الإنسان، ناهيك عما تحفل به من دمار وخراب، تشير كلها إلى أننا أمام حروب ذات طبيعة يتداخل فيها الدافع الديني مع الادّعاء السياسي، وتختلط في ثناياها الهواجس والمخاوف والمزاعم، لتنتج شكلاً غير مسبوق في تاريخ الحروب التي تستسقي الدماء فيها الدماء، وتكتسب روح الانتقام والكراهية خلالها مزيداً من مظاهر الفاشية واسترخاص الحقّ في الحياة.
ولعل ما هو أشد فداحة وأصعب منالاً حتى على الخيال هذا الإجماع لدى معظم المراقبين السياسيين ذوي العقول الباردة والمشاعر الميّتة على أن الحرب الضارية على الفلسطينيين تزداد ضراوة كل يوم، وأنه مقدّر لها أن تتواصل على نحو أقسى، وبصورة أمرّ وأدهى لأجل غير معلوم، والأسوأ أن هذا النقل التلفزيوني المكثف يؤدي إلى تعود المشاهدين على مثل هذه الصور المضرّجة بالدم، وإلى تبلّد إحساسنا حيال حيوات الضحايا، جرّاء ما يتراكم في نفوس أمةٍ فاضت كؤوسها المترعة بالالتياع.
إزاء ذلك كله، يبدو من المفهوم لماذا شرع كثيرون من حولنا، بمن فيهم ذوو الضمائر الإنسانية المثخنة بالأوجاع، في الإعراب علناً عن عدم قدرتهم على تحمّل مزيدٍ من الأنباء المحزنة، ورغبتهم في هجر الشاشة المنزلية التي باتت قنواتها الإخبارية المتخصّصة تتسابق على نقل الصور الفظيعة بكل المعايير من دون تردّد، وبث المشاهد الإجرامية التي لا نظير لها من غير تحسّب، خصوصاً ونحن نعيش اليوم في عصر الفضاءات المفتوحة، وتكنولوجيا الثورة الرقمية المتعاظمة، الأمر الذي جعلنا أكثر استباحة من ذي قبل لهذا الضخّ الإعلامي، وأشد انكشافاً أمام المشاهد المنقولة بالصوت والصورة، وهو ما يُفسّر سبب إصابة بعض منّا بالذعر من الجلوس أمام التلفزيون.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي