الهجمات الفلسطينية تهدّد بإسقاط حكومة الاحتلال
قد يكون من أهم نتائج الهجمات الفلسطينية التي بدأت منذ أكثر من شهر، وتسببت بمقتل 19 إسرائيلياً وجرح عدد آخر منهم، أنها قد تؤدي إلى انهيار الحكومة الإسرائيلية التي يترأسها زعيم حزب يمينا المتطرّف، نفتالي بينت. الحكومة التي تشكلت بعد أربع جولات انتخابية لم تؤد إلى حسم واضح، استطاعت بصعوبة الحصول على أغلبية ضئيلة، معتمدة على ائتلاف هجين جمع اليمين الإسرائيلي مع أحزاب الوسط واليسار، ومشاركة حزب عربي للمرة الأولى في تاريخ الحكومات الإسرائيلية هو القائمة العربية الموحدة، برئاسة منصور عباس. وقد سارعت هذه الحكومة، فور تأليفها إلى إعلان أنها لن تبحث في موضوع التسوية السياسية مع الفلسطينيين، كي لا تتسبب بانهيار الائتلاف، لكن اليوم يبدو أن الموضوع الفلسطيني تحديداً سيكون سبباً في سقوطها، وأن ما حاولت التهرّب منه سيؤدي، في النهاية، إلى انهيارها.
رفع الهجوم الذي نفذه فلسطينيان في إلعاد قرب تل أبيب سقف التحدّيات في وجه حكومة بينت التي سعت إلى مواجهة ما تسميها "موجة" الهجمات الفلسطينية في داخل المدن الإسرائيلية، وفي الضفة الغربية، من خلال عمليات إحباط وعمليات وقائية وردود مباشرة واعتقالات واسعة النطاق، معتمدة أساسا على المعلومات الاستخباراتية التي لدى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على اختلاف أنواعها.
المأزق الذي تواجهه الحكومة الإسرائيلية أن السياسة التي استخدمتها لكبح الهجمات فشلت فشلاً ذريعاً
ولكن الهجمات الفلسطينية، أخيرا، وضعت حكومة بينت أمام تحدٍّ مختلف تماماً، فقد انتقل مركز التوتر من قطاع غزة والمدن الإسرائيلية المتاخمة له إلى داخل المدن الإسرائيلية، وإلى القدس الشرقية، وبصورة خاصة إلى الحرم القدسي الشريف. وفي الوقت الذي شهدت مدن غزة هدوءاً أمنياً غير مسبوق، توالت وتيرة الهجمات في داخل إسرائيل، وارتفع منسوب التوتر في القدس الشرقية والمواجهات في الحرم القدسي وفي مدن الضفة الغربية. وبدا واضحاً أن الحكومة والمؤسسة العسكرية الإسرائيليتين أمام تحدّ مزدوج: فهما من ناحية عاجزتان عن الكشف المبكر عن مهاجمين فلسطينيين يعيشون في داخل إسرائيل ويحملون هويتها، ومن جهة ثانية لا تريدان الدخول في جولة عنف عسكرية إضافية مع حركة حماس التي ظاهرياً تراعي شروط التهدئة التي جرى التوصل إليها بعد العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة العام الماضي، مقابل تسهيلات اقتصادية قدّمتها لها إسرائيل، منها زيادة عدد العمال الفلسطينيين من القطاع الذين يعملون في داخل إسرائيل.
المأزق الذي تواجهه الحكومة الإسرائيلية أن السياسة التي استخدمتها لكبح الهجمات فشلت فشلاً ذريعاً. وكي تغطي على عجزها ومواجهة النقمة الشعبية العارمة ضدها، فهي على الأرجح قد تتوجه إلى استخدام العنف المفرط ضد الفلسطينيين، بصورة خاصة ضد حركة حماس التي يحمّلها المسؤولون الإسرائيليون المسؤولية المباشرة، ويتهمونها بأنها الجهة المحرّضة والمخطّطة لهذه الهجمات، وأن الوقت قد حان كي تدفع الثمن. لكن الراهن أن ليس لدى الحكومة الحالية استراتيجية شاملة لمواجهة التطورات، وفي الأساس، لمعالجة مشكلة "حماس" في غزة.
تحميل "حماس" المسؤولية والدعوات لتدفيعها الثمن هو مرّة أخرى محاولة للتهرّب من مسؤولية إسرائيل في دوام الاحتلال إلى ما لا نهاية
أظهرت الهجمات الفلسطينية أخيرا واقعاً فلسطينياً جديداً، وجيلاً جديداً من الشباب الفلسطيني الذي يتحرّك على الأرض، سواء بصورة منفردة أو منظمة، ويشنّ هجمات في أماكن غير متوقعة وفي العمق الإسرائيلي، مقوّضاً أسطورة الأمن الإسرائيلي، ومثيراً الخوف في قلوب الإسرائيليين. ما يجري أكبر بكثير وأكثر تعقيداً مما تحاول الجهات الأمنية تقديمه أو تفسيره، وهو ليس فقط من عمل "حماس"، كما يدّعي هؤلاء، بل هو ظاهرة أعمق وأكثر تشابكاً، ويمكن أن تستمر وقتاً أطول مما يتخيّله المسؤولون الإسرائيليون. جيل الشباب الفلسطيني الذي هُمّش وأهمل بسبب السياسات الخاطئة التي مارستها السلطة الفلسطينية، وبسبب توحّش المستوطنين اليهود في الضفة الغربية وسياسة الاعتقالات والقمع التي تمارسها سلطات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني جعلت هؤلاء يشعرون بأنه لم يعد لديهم ما يخسرونه، وهم الآن يحاولون كتابة مسيرة النضال الفلسطيني من جديد.
المحاولة الإسرائيلية تحميل "حماس" الجزء الأكبر من مسؤولية ما يجري هو تجاهل حقيقة أساسية، أن التطورات أخيرا هي نتيجة أساسية لسياسة "إدارة النزاع" التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وحصيلة مقايضة الهدوء الأمني بتقديماتٍ اقتصادية ومعيشية، وشراء صمت الفلسطينيين، من خلال التحكّم بمصدر زرقهم. وتحميل "حماس" المسؤولية والدعوات لتدفيعها الثمن هو مرّة أخرى محاولة للتهرّب من مسؤولية إسرائيل في دوام الاحتلال إلى ما لا نهاية، وخطأ تعويلها على أن الشعب الفلسطيني، في النهاية، سييأس وسيخضع.
أثبتت التطورات أخيرا عدم صحة هذه التوقعات، فالهجمات الفلسطينية لن تخبو كما توقع الإسرائيليون، وهي حاليا تكاد تطيح الحكومة الإسرائيلية التي تجد نفسها أمام نارين: الرد بعنف على الهجوم في ألعاد، ولو كلفها الدخول في عملية عسكرية جديدة ضد "حماس" أو ضد الضفة الغربية؛ أو التعرّض إلى نيران انتقاد الجمهور الإسرائيلي الذي سيطالب بسقوطها. ومعنى ذلك العودة إلى مربع الصفر، وإلى حالة من عدم الاستقرار السياسي الذي سيترافق، هذه المرّة، مع عدم استقرار أمني.