النكبة الفلسطينية في قلب الكونغرس
لا تقف حدود التواطؤ المؤسسي الأميركي مع إسرائيل عند تزويدها بالمال والسلاح وتوفير الغطاء الدبلوماسي لها للاستمرار في احتلالها وجرائمها بحقّ الفلسطينيين فحسب، بل يتعدّى الأمر ذلك إلى محاولة طمس معالم السردية الفلسطينية وتشويهها. طبعاً، لا جديد في الحديث عن الانحياز الأميركي القديم والسافر والدائم لإسرائيل. ويكفي أن نتابع التصريحات الأميركية التي تصف العدوان الإسرائيلي الجاري حالياً على قطاع غزة بـ"الدفاع عن النفس"، ووقوف الولايات المتحدة مع الدولة العبرية بشكل "صارم.. أمام الهجمات الصاروخية العشوائية التي تشنها الجماعات الإرهابية". هذا ليس من قبيل النظر بعين واحدة، وإنما هو العمى الطوعي بذاته. ولا ينبغي لأحد أن يتوقّع غير ذلك من واشنطن، سواء تحت الديمقراطيين أم الجمهوريين، إلا إذا اختار هو الآخر التعامي عن الحقائق الساطعة، وكثيرون يفعلون ذلك، فلسطينياً وعربياً. ولكن هناك تغيرات وإزاحات مهمة على مستوى الرأي العام الأميركي لصالح الفلسطينيين، وحتى داخل الحزب الديمقراطي نفسه، وهي أمور تتعزّز منذ سنوات. لكن لا ينبغي لذلك أن يخدعنا أبداً، إذ إن البنية المؤسّسية للولايات المتحدة، بل وكذلك في الحزب الديمقراطي، لا زالت متحدّة خلف إسرائيل مشروعاً ودولة، بغض النظر عن التوترات والخلافات المتكرّرة بين حكومتين.
في سياق الحديث عن محاولات طمس معالم السردية الفلسطينية وتشويهها، كان لافتاً ذلك التصرّف غير المعتاد الذي أقدم عليه رئيس مجلس النواب الأميركي، كيفين مكارثي، بحقّ نشاط لعضو كونغرس آخر، عندما ألغى فعالية لإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية الـ75 في مقر الزوار في مبنى الكونغرس. عندما تسرّب خبر الفعالية التي دعا إليها مكتب النائبة الديمقراطية من أصل فلسطيني رشيدة طليب، وعدد من المؤسسات الأميركية المدافعة عن حقوق الشعب الفلسطيني، ومنها المؤسسة التي أديرها "أميركيون من أجل العدالة في فلسطين"، ثارت ثائرة اللوبي الصهيوني وحلفائه، زاعمين إن الفعالية "معادية للسامية" بذريعة أنها تصف ذكرى إنشاء إسرائيل بـ"النكبة"!
أصل النشأة بين الولايات المتحدة وإسرائيل مشترك، فكلتاهما قامتا على جرائم إبادة دموية وعرقية ودينية وحضارية وتاريخية ضد السكان الأصليين
لا يخفى هنا قدر العنصرية البغيضة في القفز عن معاناة الفلسطينيين جرّاء النكبة التي حلت بهم، دع عنك محاولة إعادة كتابة التاريخ وحقيقة ما وقع من جرائم فظيعة بحق الفلسطينيين، ليست أميركا بريئة منها. لم يتأخر مكارثي، فأعلن مساء الثلاثاء الماضي إلغاء الفعالية التي كان من المفترض أن تعقد في اليوم التالي، متفاخراً بأنه سيستضيف "بدلاً من ذلك أعضاء من الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) لتكريم الذكرى الـ75 للعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل". ومع ذلك، ورغم تحرّكات مكارثي الصبيانية لمطاردة هذه الفعالية وإلغائه حجزاً في قاعة ثانية في مجلس النواب قبل بدئها بساعات، نجح المنظّمون، في النهاية، في عقد نشاطهم في قاعة في مجلس الشيوخ يشرف عليها السيناتور بيرني ساندرز، وهو ما أثار حفيظة مكارثي واعتذاريي إسرائيل.
صحيح أن التحوّلات في الموقف الشعبي الأميركي لصالح القضية الفلسطينية حقيقية، ولكنها لا تنعكس، بالضرورة، بشكل قوي وجذري في صناعة القرار السياسي. أحد أسباب ذلك أن قضية فلسطين ليست أولوية كبرى لدى غالبية الأميركيين، خصوصاً في ظل ضعف إمكانات أنصارها. وكان استطلاع للرأي نشرته مؤسسة غالوب العريقة، في مارس / آذار الماضي، أشار إلى ارتفاع منسوب التعاطف الشعبي الأميركي مع الفلسطينيين إلى 31% مقابل 54% يتعاطفون مع إسرائيل. هذا تحوّل مهم، خصوصاً أن إسرائيل كانت تتمتع بدعم شعبي هائل، لكنه يتناقص سنوياً بشكل مطرد. ولا تقف معضلة إسرائيل وحلفائها أميركياً عند ذلك الحد، إذ تفيد نتائج الاستطلاع نفسه بأنه في وقتٍ يتعزّز فيه التأييد لإسرائيل بين الجمهوريين (78% مقابل 11% لصالح الفلسطينيين)، فإن 49% من الديمقراطيين أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين، مقابل 38% فقط لصالح إسرائيل. هذا تحوّل خطير، إذ يعني أن إسرائيل تتحوّل تدريجياً إلى قضية حزبية، بعد أن كانت لعقود قضية فوق حزبية في الحياة السياسية الأميركية. أبعد من ذلك، استطلاع الرأي هذا، وآخر غيره، يؤكّدان أن إسرائيل قد خسرت جيلي الألفية الثانية (1981 – 1996)، وجيل "زد" (1997 – 2013).
لم تحدُث تلك التغيرات في فراغ، وإنما هي نتاج جملة من الأمور، في صدارتها سياسات إسرائيل الإجرامية بحق الفلسطينيين، والتي لم تتردّد المؤسّسات الحقوقية الدولية بوصفها بـ"الأبرتهايد"، وصعود حركة العدالة الاجتماعية، غربياً، وتضعضع سيطرة "الإعلام السائد" أو المتواطئ على المعلومة وتكييفها، وصعود اليمين المتطرّف في إسرائيل. دع عنك جهوداً جبّارة، رغم ضعف الإمكانات، تبذلُها مؤسساتٌ تدافع عن الحق الفلسطيني في الغرب، وتعمل على إماطة اللثام الزائف عن وجه المشروع الصهيوني الذي يسوّق نفسه "ديمقراطياً" و"واحة" من الأمان والاستقرار في "صحراء عربية مقفرة".
على من أراد تغيير حالةٍ أن يفهم عمقها ومداها وديناميكياتها أولاً، ثمَّ يضع الاستراتيجيات والخطط ثانياً، ويديرها بنجاح ويستثمر فيها ثالثاً
مع ذلك، رغم هذه التحوّلات وأهميتها وضرورة الاستثمار فيها، فإن ذلك لا ينبغي أن ينسينا حجم التحدّيات الهائلة التي تعترض السردية والمظلومية الفلسطينية في الغرب، وتحديداً في الولايات المتحدة. جلُّ الدول الغربية المؤثرة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، دول إمبريالية، وهي ليست ضحية لوبيّات صهيونية نافذة فحسب كما يسعى بعضهم إلى تبسيط المشهد. كما أن كثيراً من تلك الدول متورّطة في جرائم إبادة ضد الإنسانية، كفرنسا وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا وأميركا. ولا ننسى هنا أن أصل النشأة بين الولايات المتحدة وإسرائيل مشترك، فكلتاهما قامتا على جرائم إبادة دموية وعرقية ودينية وحضارية وتاريخية ضد السكان الأصليين.
لا أريد أن أنهي هذه السطور بمشهد قاتم، لكن على من أراد تغيير حالةٍ أن يفهم عمقها ومداها وديناميكياتها أولاً، ثمَّ يضع الاستراتيجيات والخطط ثانياً، ويديرها بنجاح ويستثمر فيها ثالثاً. هذا جزء من عملنا بوصفنا مدافعين عن الحقوق الفلسطينية في الغرب، وأظن أننا نحقّق تقدّماً. ونجاحنا في عقد فعالية النكبة في الكونغرس الأميركي، رغماً عن بطلجة مكارثي، مؤشّر على ذلك. لكن، في خضم ذلك، لا نريد أن ننسى أن التغييرات الأهم ينبغي أن تحدُث في عالمنا وفضائنا العربي أولاً.