النظام الإقليمي بعد طوفان الأقصى
من غير المرجّح أن يبقى الإقليم على حاله بعد أن تضع الحرب أوزارها في قطاع غزّة، ليس فقط بسبب عودة القضية الفلسطينية لتصدُّر واجهة الاهتمام الدولي، بعد أن كادت مراكزُ القوة في الغرب والإقليم أن تُعوِّمها في اتفاقات التطبيع العربية الإسرائيلية، ولكن أيضا بسبب صعود قوى غير دوْلتِيّة (non étatiques) وتطلُّعِها إلى التأثير على النظام الإقليمي كحلقةٍ في النظام الدوليّ القائم، الذي تحرص الولايات المتحدة على تغذيته واستمراريته.
كان الهجوم الذي شنته فصائل المقاومة الفلسطينية على العمق الإسرائيلي، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، مؤشّرا إلى بداية تحوُّل هذه القوى غير الدولتية، من فصائلَ وأحزابٍ وتنظيماتٍ وجماعاتٍ، إلى فواعِل قادرة على التأثير في معادلة الأمن الإقليمي وفق حساباتها التي تتعارض، بالضرورة، مع حسابات الدول الفاعلة (السعودية، إيران، إسرائيل، تركيا، مصر...). ذلك أن صعود هذه القوى يقلّص هامش الحركة أمام الدول، أو بعضها، لإدارة أزمات الإقليم واستخلاص عائداتها. ولعل هذا ما يفسّر حالة الصدمة التي خيّمت على عواصم عربية وغربية بعد ''طوفان الأقصى''، فقد كان واضحا أن الأمر يتعلّق بحدث مفصلي، ستكون له تداعيات فلسطينية وإقليمية، وأن الجهود الأميركية والإسرائيلية الساعية إلى بناء حلف أمني ودفاعي عربي إسرائيلي مشترك في مواجهة التمدّد الإيراني في المنطقة باتت أمام تحدٍّ كبير، إن لم نقل إنها وصلت إلى الباب المسدود.
العدوان الإسرائيلي غير المسبوق على غزّة، في جانب منه، ردٌّ إسرائيلي وأميركي على سعي حركة حماس، وفصائل المقاومة الأخرى، إلى أن تكون فاعلا في إرساء معادلة أمنية وسياسية جديدة في المنطقة، يكون ضمنها فتحُ الطريق أمام حلّ عادلٍ للقضية الفلسطينية يضمن الحدّ الأدنى من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67 وعاصمتها القدس، ما يعني، بشكل أو بآخر، وضع الدول العربية أمام مسؤوليتها بإعادة القضية الفلسطينية إلى أجنداتها، ليس بوصفها قضية عربية، ولكن شأنا أمنيّا يتقاطع مع رؤيتها لمصالحها. وينطبق ذلك بشكل كبير على مصر، التي يهدّد مخططُ تهجير سكّان غزّة إلى سيناء أمنَها الوطني على المدى البعيد، وأيضا على الأردن في علاقته بما قد تشهده الضفة الغربية من تطوّرات في مقبل الأيام. لقد أعاد ''طوفان الأقصى'' القضية الفلسطينية إلى معادلة الأمن الإقليمي باعتبارها رقما رئيسا سيكون من الصعب، إن لم نقل من المستحيل، القفز عليه في أي هيكلةٍ تطرأ على النظام الإقليمي القائم.
يتقاطع ذلك كلُّه مع التحدّيات الأمنية التي تواجهها الولايات المتحدة، فأي تغييرٍ في علاقات القوة، على صعيد الإقليم، يهدّد النظام الدولي الذي تحرص على أن تبقى مهيمنة عليه، حتى لا يتفكّك ويتحوّل إلى نظام متعدّد الأقطاب، بما يعنيه ذلك من تهديد مباشر لمصالحها في العالم.
بالتوازي مع ذلك، شكّل ''طوفان الأقصى'' بالنسبة لإيران منعطفا لتعزيز موقعها فاعلا رئيسا في النظام الإقليمي، بمساندتها حركة حماس، لكن من دون وصاية سياسية عليها. وهو ما كان له أثره في تعزيز صورة الحركة، ومعها باقي فصائل المقاومة، فاعلا جديدا بحسابات تختلف عن تلك التي تقود دول الإقليم، وفي مقدمتها إيران.
قد يدفع استبسال المقاومة في مواجهة العدوان الإسرائيلي صنّاع القرار في العواصم الغربية الكبرى إلى إعادة النظر في علاقتهم بها، فاعلا صاعدا، وبالتالي، البحث عن تسويةٍ للقضية الفلسطينية حتى لا يخرُج الأمر عن السيطرة في المستقبل، ولا سيما أن قطاعات داخل النخب والإعلام والرأي العام في الغرب بدأت تدرك أن تكاليف تبنّي مجتمعاتها السرديةَ الإسرائيليةَ في ارتفاع مضطرد، على حساب صورتها الأخلاقية، ما قد يدلُّ على تشكّل خطابٍ مغايرٍ لما ينبغي أن يكون عليه الأمن في المنطقة.
سيكون للمواجهة التي تخوضها المقاومة الفلسطينية ما بعدها، على صعيد النظام الإقليمي وأدوار الفاعلين وأولوياتهم وحساباتهم التي ستتأثر، بالضرورة، بأي تبدُّل في علاقات القوة القائمة.